فلسطين في ظل الغزو الصليبي:
لقد عانت الدولة الفلسطينية في الفترة الأخيرة من الكثير من الفوضى خلال الربع الأخير من القرن العاشر والربع الأول من القرن الحادي عشر الميلاديين أي في عام 979/ 1029 ميلادي، بسبب ما تعرضت له من الثورات التي تزعمها الأمراء العرب من بني الجراح الطائيين، والتي ساهم فيها حلفاؤهم من بني كلب وبني مرداس، لقد تمتعت فلسطين بفترة من الهدوء الكلي، شهدت في أثنائها نوعاً من الاستقرار السياسي.
وفي عام 420/ 1029 ميلادي وبعد معركة الأقحوانة التي وقعت جهة الشواطئ الجنوبية من بحيرة طبرية، هزم الجيش الفاطمي الذي يقوده أمير الأمراء أنوشتکین الدزبري قوات ذلك التحالف القبلي الثلاثي وشتت شملها.
إنّ تلك الفترة الكبيرة التي تميزت بالاستقرار، جاء بعدها فترة هزيمة التحالف، بحيث لم تكن كافية لإصلاح ما أفسده نصف قرن من الفوضى، على الرغم من الجهد الكبير الذي بذله الولاة الفاطميون الذين تولوا إدارة شؤون فلسطين، فقد كان الدمار الذي حل بالبلد ذا حجم كبير وشامل، مما أدى إلى قلة جهود الإعمار المبذولة، بحيث لم يتم إصلاح إلا أجزاء محدودة منه.
لقد استمرت الأوضاع المعيشية لأهل فلسطين على حالها لم نتغير، بالإضافة إلى عدم مساعدة الظروف على عمليات الإصلاح مما أدى إلى التوقف عن عملية الإعمار والترميم، حيث تعرضت فلسطين على مدى العقود الأربعة التي جاءت بعد معركة الأقحوانة لمجموعة كبيرة من الكوارث الطبيعية المتتالية، فضربتها زلازل مدمرة قضى على ما تم ترميمه من العمائر والمرافق والمنشآت ودمرت ما بقي سالمة منها في تلك الفترة.
وفي تلك الفترة وفي أثناء الزلازل التي أصابت فلسطين حديث أعوام من القحط، أدت إلى قلة الأمطار بشكل كبير وجفت الينابيع والآبار، مما أدى إلى خراب الزرع والضرع، وأصاب السكان المجاعة وانتشرت الأوبئة والطواعين فيهم، فمن لم يمت منهم جوعاً وعطشاً فتكته الأوبئة التي لم يُلقى لها أي علاج، ولم تكن هذه الكوارث من تصيب فلسطين وحدها، بل عمت أيضاً بقية بلاد الشامومصر.
فلسطين تحت سيطرة التركمان:
لقد تميز التحرك السياسي للتركمان بمقدار ومستوى كبير من الواقعية السياسية، فلم يغب عن بالهم موازين القوى المتغيرة من القوات الإسلامية العظيمة، ومن أبرزها الدولة الفاطمية في مصر وبلاد الشام والخلافة العباسية في العراق والمشرق والسلاجقة الذين يعتبرون اليد اليمنى لهم.
إنّ التركمان كانوا يتبعون مذهب أهل السنة والجماعة، مثلهم مثل التركمان السلاجقة الذين أصبحوا حماة الخلافة السينية في بغداد، إلا أنّهم لم يتبعوا رغباتهم المذهبية، ولم يعلنوا عن عداوتهم للفكر الشيعي، الذي تمثله الخلافة الفاطمية في مصر، على الرغم من أنه كان في نظرهم فكرة خارجة عن الفكر الديني الذي يطرحه أهل السنة والجماعة.
إنّ التركمان لم يعلنوا ولائهم السياسي لخلافة بغداد على أي من منابر فلسطين التي وقعت تحت نفوذهم في مراحل نشاطهم السياسي المبكر، فكانوا على العكس تماماً من الجهة الأخرى، فقد حرصوا على إظهار ولائهم للفاطميين، واستمروا في إلقاء الخطبة للخليفة الفاطمي المستنصر، تعبيراً منهم عن رغبتهم في كسب مناصرته ضد واليه في بلاد الشام بدر الجمالي.
بعد أن استولى زعيم التركمان على الرملة ومعظم الأقسام الداخلية في فلسطين، قام بتوجيه جل اهتمامه لمد نفوذه على مدينة القدس، ففي عام 456/ 1072 ميلادي توجه بتجاهها وقام بمحاصرتها، فاضطر في ذلك الوقت قائدها الفاطمي إلى طلب الأمان منه.
وبسقوط القدس في أيدي التركمان خضعت أغلبية فلسطين إلى الوقوع تحت نفوذهم، ولم يبق تحت سيطرة بدر الجمالي إلا طبرية ومدينتا الساحل عسقلان وعکا، وعلى أثر احتلال زعيم التركمان مدينة القدس غضب الخليفة الفاطمي لأنها كانت إحدى أهم ركائز الشرعية التي تستند إليها الخلافة الفاطمية، فكان فقدانها يعني فقدان تلك الشرعية.
إنّ حاكم التركمان كان مدركاً لتلك الحقيقة، فقد عمل على تفاديه لعواقب غضب الخلافة الفاطمية، فقد سارع إلى إعلان ولائه السياسي للخليفة العباسي القائم بأمر الله والسلطان السلجوقي، الذي تولى السلطنة بعد وفاة أبيه، وألقيت الخطبة باسميهما على منابر فلسطين، ثم بعد ذلك بعث حاكم التركمان إلى بلاط الخليفة العباسي بحمل البشارة بفتحه القدس، فتلقى الخليفة هذه البشارة بالفرح الكبير، مما أدى إلى زيادة وتعظيم مكانة الزعيم التركماني في نظره ونظر سلطانه السلجوقي؛ لأنه انتزع من الفاطميين الشيعة.