عندما وصل عقبه بن نافع لإفريقيا وقام بترتيب أمورها، ولكنه قام بمعاملة أبا المهاجر بمعاملة ليست حسنة، فقد قام بشد الوثاق عليه، ولكن رغم معاملة عقبة القاسية لم يبخل أبا المهاجر عليه بالنصائح؛ لأن أبا المهاجر إنساناً شهماً غيوراً، ومن أبرز نصائحه بقوله له أن يحسن معاملة زعيم البربر كسيلة وإكرامه، ولكن عقبة قام بإهانة الزعيم.
جهاد عقبة بن نافع من القيروان إلى المحيط:
عندما اكتمل بناء القيروان عزل عقبة بن نافع عن إمارة إفريقيا سنة 55هـ، وأعيد لها عام 63هـ، وبعدها قام بالذهاب إلى الجهاد وقطع ما يقارب ألف ميل أو أكثر من مدينة القيروان إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهبر بن قيس البلوي، ودعا لها قائلاً: يا رب املأها علماً وفقهاً واملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك.
وبعدها خرج عقبة بن نافع ومعه عشرة آلاف مقاتل من الشام، وانضم إليه الكثير من القيروان، ودعا أولاده قبل أن يسافر وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله فلا أزال أُجاهد من كفر بالله ركم ، وأوصى أولاده قائلاً لهم: إياكم أن تملئوا صدوركم بالشعر وتتركوا القرآن فإن القرآن دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، وأوصيكم أن لا تداينوا ولو لبستم العباءة فإن الدين ذُلٌّ بالنهار وهمٌ في الليل.
استشهاد عقبة بن نافع وأبا المهاجر:
كان عقبة مجاهداً مخلصاً، وإحساسه إحساس المؤمن الصادق، وكان شعوره بأنه سيلاقى ربَّه قريباً في هذه الجولة، وعندما همَّ إلى الخروج من القيروان دعا أولاده وقال لهم نصيحته، وترجع سبب الكارثة التي حلَّت به إلى معاملة عقبة لكسيلة معاملةً سيئة، وكان كسيلة زعيم البربر له مكانته العالية عند قومه، وعندما دخل الإسلام تبعه الكثير، وكان أبا المهاجر قد ولفه وصاحبه.
ولكن رغم النصائح الكثيرة التي نصحها أبا المهاجر لعقبة لم تجدي نفعاً، ولأن أبا المهاجر عرف من خلال معاشرته للبرابره قد عرف مدى فخرهم بكرامتهم وبأنفسهم وعد قبولهم للإهانة، وخاف عقبة من غدرهم بسبب ما حلَّ بزعيمهم، فأعطى الأمر بأن ينهوا أمر كسيلة وقال له: عاجله قبل أن يستفحل أمره، ولم يستمع عقبة للنصيحة فجازف بعمل أمر لم يعلم عواقبه.
وجعل عقبة معظم الجيش يمشي أمامه بعد رجوعه من رحلته من المغرب إلى القيروان، وعندما أصبح قريباً من القيروان، أرسل معظم الجيش لها، وبقي هو على رأس القسم الآخر، وما يحبب الناس فيه أنه كان دائماً في المقدمة وبُعرِّض نفسه للخطر، وهذه من صفات القائد الناجح.
وعندما علم الروم بأن عقبة منفرداً ومعه القليل من الجنود وهم ثلاثمائة جندي فقط، انتهزوا الفرصة للقضاء عليه، وكانوا على علم بأن وجود عقبة من أهم العوامل لتماسك المسلمين وبقائهم، فقاموا بالمؤامرة ومعهم كسيلة للقضاء عليه، فجمعوا عدداً هائل لا مثيل له من الجنود، وكانوا خمسون ألف جدي، وكان أبا المهاجر موثقاً بالحديد مع عقبة.
وعندما رأوا الجموع الهائلة أطلق عقبة سراح أبا المهاجر وأمره بالذهاب واللحاق بالمسلمين، وقال له: الحق بالمسلمين وأنا اغتنم الشهادة، فرفض أبا المهاجر وقال له: وأنا أيضاً أريد الشهادة، فكان أبا المهاجر مثلاً للرجال الذين يبيعون الدنيا ليشتروا الآخرة.
فدخلوا في معركة غير متكافئة، واستشهد جميع المسلمين، في بلاد تهوذه، وعلى الرغم من أن بعضهم كان يستطيع الهرب ألا أن حب الشهادة أبقاهم ثابتين.