دوافع الاستجابة الواسعة لحركة الزنج

اقرأ في هذا المقال


الدوافع السياسية لحركة الزنج:

إنّ دافع الاستجابة الواسعة للحركة من قِبَل العبيد، فتكمن في ثلاثة وهي اقتصادية واجتماعية وسياسية. أما خلال الدوافع السياسية، لقد سبق حركة الزّنج ورافقها نفوذٌ مارسه الأتراك على الخلافة. وقد غلب عليهم الارتزاق، وانحصر نشاطهم في تقدير الوسائل التي تمكنهم من ضرب خصومهم ومنافسيهم، والاستئثار بالسلطة. مما أدى إلى كثرة المؤامرات السياسية والانقلابات العسكرية، فانحدرت الخلافة إلى الحضيض، وغدا الخلفاء ضعفاء مسلوبي الإرادة.

نتيجة تردّي الأوضاع السياسية، اشتد ساعد المعارضة، فتعاظم النفوذ، وتغلغل بين الناس، وكان الاتجاه الحركي المُعارض يجيش منذ مطلع القرن الثالث الهجري، فتكاثرت الحركات المناهضة للحكم المركزي، وتعددت الحركات الانفصالية التي جاءت دليلاً على أن الانحلال أخذ يدبّ في مركزية الخلافة.

فكان الجو السياسي العام مُلائماً للرجال المغامرين، كي يفوزوا بالسلطان، في الوقت
الذي كانت فيه المعركة على أشدها بين الحكومة المركزية والمعارضة مع بروز حُكّام في بعض الولايات لم يعترفوا حتى اسمياً بسلطة الخلافة، وراحوا يعبرون عن أماني هذه الفئات المعارضة، إلى جانب صراع خفي بين الإقطاعية والعبيد، وجد متنفساً له في دعوة علي بن محمد الطامح إلى السلطة.

الدوافع الاقتصادية لحركة الزنج:

ومن حيث الدوافع الاقتصادية، تبرز أمامنا ظاهرتان؛ ظاهرة الأوضاع المالية المتدهورة، وظاهرة التكوين الطبقي للمجتمع العباسي. ففيما يتعلق بالظاهرة الأولى، فإن الأمور المُلفتة للنظر في النصف الأول من القرن الثالث الهجري أن مالية الدولة كانت في تأخُّر مُستمر بفعل إسراف الخلفاء والقادة الأتراك على أنفسهم.

ومن مظاهر التعثر والانحطاط في مالية الدولة أن نظام الالترام أو الضمان أضحى على ما يبدو النظام السائد، ومما زاد الأوضاع المالية تفاقُماً، فصل بيت مال المسلمين عن خزانة الخليفة الخاصة، ومع اشتداد نفوذ الأتراك، فقد وضعوا أيديهم على بيت المال، في حين انصرف الخلفاء إلى تنمية موارد خزانتهم الخاصة.

طبقات المجتمع العباسي:

أما فيما يتعلق بالظاهرة الثانية، فقد كان المجتمع العباسي يتألف في القرن الثالث الهجري من ثلاث طبقات اجتماعية هي:

1- الطبقة الإقطاعية، وتتألف من الأسرة المالكة، والقادة الأتراك والوزراء الأثرياء وأصحاب المناصب، ويملك أفرادها الأراضي، ويعتمدون على الزراعة كمصدر لثرواتهم. وقد تطورت أوضاعهم الاقتصادية تطوراً كبيراً باتجاه التوسع والتكثيف، مما تطلب زيادة عدد العبيد الذين يعملون في هذا الحقل، خاصة في جنوبي العراق.
2- طبقة التجار.
3- الطبقة العامة العاملة.

وعرف أواسط القرن الثالث الهجري ازدياداً في دور الإقطاع، وتُعدُّ ضياع البصرة، حيث كان الزنج يعملون في الأراضي الموات التي كان عليهم استصلاحها وتجفيفها، مما تطلب زيادة الاعتماد على العبيد المجلوبين من شرفي إفريقية، باعتبارهم أيدي عاملة رخيصة وذات بُنية قوية تصلح للعمل في تلك السباخ أو الأراضي الملحية.

وقد ترافق ذلك مع ازدياد دور التجارة. فقام التُجار بشراء العبيد بأثمان رخيصة، وباعوهم لملاك الأراضي في البصرة الذين حشروهم في تلك المنطقة. واتسعت الهوة، مع مرور الزمن، بين هؤلاء وبين الطبقة الإقطاعية. وبلغ التناقض الاجتماعي مداه، مما كان دافعاً للاستجابة لنداء الثورة الذي أطلقه علي بن محمد.

الدوافع الاجتماعية لحركة الزّنج:

ومن حيث الدوافع الاجتماعية، فقد عاشت تلك الفئات من العبيد ظروفاً معيشية شاقة وسيئة، فكان عليهم العمل في تجفيف المستنقعات وإزالة السباخ عن الأراضي، ثم نقل الملح بواسطة الدواب إلى حيث يُعرض ويباع؛ لقاء وجبة طعام تتألف من الدقيق والسويق والتمر ما كانت لتشبع، كما حُشروا في مخيمات لا تتوافر فيها الشروط الصحية العامة، فتعرضوا للأمراض الفتّاكة، كما تعرضوا لضغط عوامل نفسية شديدة الوطأة بفعل أنهم كانوا عزاباً أو متزوجين يعيشون بعيداًعن أسرهم.

وقد دفعت هذه الأوضاع الاجتماعية المتردية، هؤلاء العبيد، إلى الاستجابة لنداء علي بن محمد الذي وعدهم بقيادتهم إلى الحرية، وأن يهبهم الأملاك، وأن يبقى مُخلصاً لهم حتى النهاية، مركزاً على بؤسهم وسوء حياتهم، ومنّاهم بمستقبل رائع، ومنازل لإيوائهم.

الاصطدام بالسلطة ‏ نهاية الحركة:

وما زال الزَّنج يلتفون حول علي بن محمد حتى كان يوم الفطر، فخطب فيهم، وصلَّ بهم، وأعاد إلى أذهانهم ما كانوا يلقونه من ظلم وعنت، ومنّاهم الأماني الطيبة، واتخذ من مدينة المختارة، التي بناها قاعدة انطلاق. وقد برهن على أنه قائد مقتدر، إذ تميزت حملاته بكفاءة استطلاعية، فتوفرت له دائماً المعلومات عن تحركات جيوش الخلافة. واعطته السياسة القتالية التى اتبعها، والقائمة على نصب الكمائن التفوق على قوات الخليفة. فدخل البصرة عام (257 هجري)/(871 ميلادي)، وقتل سكانها وأحرقها.

كانت الخلافة آنذاك مُنهمكة في حرب يعقوب بن الليث الصمار مما أعطى علي بن محمد فرصة التمادي والتوسع والتدمير، فسيطر خلال عشرة أعوام (255 – 256 هجري)/(869 – 879 ميلادي)، على رقعة واسعة تمتد بين الآهواز وواسط، وباتت بغداد مهددة. عندئذ عهد الخليفة المُعتمد إلى أخيه أبي أحمد الموفق طلحة، بمحاربة الزّنج.

فتولى هذا القائد قيادة العمليات العسكرية بنفسه. واستعمل كل ما لديه من إمكانيات سياسية واقتصادية وعسكرية ليكفل النجاح، فحاصرهم اقتصادياً ليضعف قدراتهم، فأحرق غلالهم ومؤنهم، وقطع التموين عنهم الذي كان يقدمه الأعراب لهم. فعضّهم الجوع، وخارت قوأهم.

فاستسلمت أعداد كبيرة منهم. ومن حيث الصدامات العسكرية، فقد تمكن الموفق من إجلائهم عن الأهواز، وفتح مدينتهم المختارة، ثم توالت هزائمهم وسقوط مدنهم الأخرى حتى دم النصر النهائي عليهم في عام (270 هجري )/(883 ميلادي). وقُتل علي بن محمد إبان المعارك واستسلم من بقي من أتباعه.

وبإطفاء الثورة، كشف المستور على هذه الحركات التي أفاقت مضاجع الخلافة العباسية، وككلتها الكثير من الجهد والأموال والأرواح، والتي امتدت أكثر من أربعة عشر عاماً (255 – 270 هجري)/(869 – 883 ميلادي).

تقييم حركة الزنج:

لقد اندفعت حركة الزنج من احداث الألم والظلم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بينَ مُستنقع منطقة البصرة وجبالها. وكانت في أولها موفقة وتناغمت فيها شروطها مع أفعالها لكن النزعة الفوضوية التي طبعتها وهي في قمة مواجهتها أدت إلى تقلّص أبعادها الاجتماعية، وقد زاد من تلك النزعة، افتقارها إلى برنامج ثوري يصوغ تطلعات وأهداف القائمين بها، ويوضح العلاقة بين القيادة والأتباع.

كما لوحظَ أنَّ رجالها كان هدفهم الانتقام لا الإصلاح، والانقلاب الكلي لا التقويم، وأن قائدها ليس لديه القدرة أن يحرر ذاته من مسألة فكرة الزعامة القرشية، بالإضافة إلى أن أطرها الثورية كانت محلية ومحدودة ولم تكن لديها تطلعات شاملة، وندرك من هنا عدم نجاح علي بن محمد في اكتساب قطاعات كبيرة من المجتمع العراقي، كالفلاحين وكبار الملاك والتجار والحرفيين، وحتى القرامطة، فأصبح العبيد بمفردهم ضعفاء رغم عددهم الكبير.

ومن نظرة أُخرى، فإن حركة الأحداث، وهدف العباسيين على القضاء عليها، لم يُتيحا قائدهم بعض من الوقت لتوحيد وتشكيل صفوف قواته، وتمكينه من انشاء دولة ينعُم فيها الراحة ذات أنظمة خاصة، لذلك كان من الطبيعي أن تفقد هذه الحركة طابعها الإنساني والثوري مما دفعها إلى نهايتها المحتومة، لكن قاعدتها الثورية التي تشتّتت استطاعت أن تكوّن إحدى الدعائم الأساسية التي دفعت الحركة القرمطية إلى الظهور فيما بعد.

المصدر: ❞ كتاب تاريخ الدولة العباسية 132-656هـ ❝ مؤلفة د.محمد سهيل طقوش ص (175 – 179) ❞ كتاب سلسلة تاريخ الأدب العربي العصر العباسي الأول ❝ مؤلفة شوقي ضيف❞ كتاب أطلس تاريخ الدولة العباسية ملون ❝ مؤلفة سامي بن عبد الله بن أحمد المغلوث❞ كتاب الدولة العباسية ❝ مؤلفة محمود شاكر أبو فهر


شارك المقالة: