عملية الترابط بين الثقافة والشخصية:
تتطلب عملية التعريف والتنقيب عن الشخصية الثقافية قدراً هائلاً من المعلومات والمتغيرات التي تكاد تكون خارج السيطرة بسبب كثرتها وتشعبها، ولهذا فإن المدخل البنيوي يعدّ من أجدى المداخل عند الحديث عن النمط والعلاقات.
وفي الحقيقة إن نظريات الشخصية المختلفة لا تستطيع فصل عنصر آخر وهو الثقافة عن مكوّنات أي نمط من أنماط الشخصية، وكان الجدل عند العلماء الأوائل يلتف حول أمر هذه العلاقة الثقافية ومدى أسبقيتها وتأثيرها على تكوين الشخصية أو أسبقية الشخصية وقدرتها على صياغة الثقافة.
ولأخذ فكرة حقيقية عن ذلك النقاش لابد من الإظهار أننا أمام مضمونين أو عنصرين: أحدهما ثقافي والآخر سيكولوجي.
وكما أن بعض البحوثات ترى أن التأقلم بين هذين الموضوعين مهم جداً، لهذا نجد بعض الباحثين يستخلصون أن الثقافة والشخصية تعتبران ناحيتين الحقيقة واحدة، بالانطلاق من أن طبيعة الترابط بينهما تسير في اتجاه واحد: من الثقافة والمجتمع إلى الشخصية.
وهذا الإسهام دليل على عملية البناء الاجتماعي الذي يتمثّل فيها الفردُ الثقافةَ وهي بمقدرتها الثقافية تجعل كل مجتمع ينتج نموذجاً متميزاً من الشخصية، والنموذج عبارة عن محتوى نظري من تنظيم عقلي متوافق يستطيع التكيّف مع متطلبات المجتمع الوظيفية والبنائية.
ويلاحظ من الأمور التابعة للثقافة أن مصطلح الشخصية في رأي بعض مجموعة من الباحثين بمثابة البديل الثقافي الايديولوجي لمفهوم الثقافة العامة، مما يجعل هذا المفهوم يأخذ وضعاً خاصاً بين مفهوم الثقافة ومفهوم المجتمع. ويساعد هذا المفهوم على الإلمام بالتعالق بين معطيين يشرحان الظواهر الاجتماعية التي يطلق عليها الباحث تالكوت بارسونز اسم “محافظ نمط النسق الفرعي للمجتمع”.
ومن الأشخاص الذين يبرطون ما بين الثقافة والنظرة العامة للفرد العالم راليف لينتيون إذ أنه يرى أن عملية البناء الاجتماعي تتكون بشكل رئيسي من لعب دور وربط ذلك الدور مع أدوار أخرى تمثل أنساقاً ثقافية، ليصل إلى تعريف للشخصية على أنها مجموعة من الأدوار.
وكما يُعدّ مصطلح الشخصية عند بعض الباحثين بمكانة بناء تصوّري يعني ضمنيًا نموذجًا للسلوك السائد في ثقافة ما.
كما سار علماء وباحثين آخرين لعلم الاجتماع في الاتجاه ذاته ولكن بشكل تنقصه الدقة والتنظيم فدراستهم لعملية تربية الطفل تُقدّم مجموعة متباينة من الآراء حول موضوع كلاسيكي يتعلق بالثقافة والطبيعة، وتوصّلت إلى الجزم بأن الطبيعة الإنسانية هي في النهاية نتاج ثقافي.
ومن غير المستحب عليها استخدام مصطلح “الطبيعة الإنسانية” لكونه غير متميز في الدلالة على الشخصية الإنسانية من جهة، ومن جهة أخرى لغموضه في التعبير الدقيق عن مكوّنات يمكن قياسها.
وزيادة على ذلك عدم وجود مقومات يمكن العثور عليها للدلالة على صلة هذه الطبيعة الإنسانية العالمية بحاجات المرء الأساسية وأوجه نشاطه اليومي مثل الطعام والجنس والنوم.
ولهذا نجد أن أحد الباحثات ترى أن خواص الذكورة والأنوثة صفات شخصية محددة ثقافيًا عند الجميع، والحقيقة أن ذلك لا ينطبق إلا على الجانب البيولوجي من التمييز بين الجنسين، لكنه لا يشمل الجانب الثقافي. وسبب قصور تعريفها يعود إلى أنها لم تُلقِ بالاً لدور العادات السائدة في المجتمع والأفكار وأساليب تربية الأطفال في تحديد هذه الأدوار بين الجنسين.
وبالإعتماد على ما سبق من آراء التي تختص بالثقافة، فإنها منحت الثقافة كامل الأحقية باعتبارها المصدر الذي ينتج أشكال الشخصيات حتى جاء أحد المحللين النفسيينوذلك لينقد القول بأسبقية الثقافة على الشخصية وبأن العلاقة بينهما تسير في اتجاه واحد من الثقافة إلى الشخصية.
فهذا الباحث يرى أن الحقائق التي لها علاقة بالثقافة لم تترابط بشكل كبير في البحث عن عملية بناء الشخصية، ولهذا فقد فشلت في إدراك طبيعة العلاقة الحقيقة بين هذين الجزئين أي: الثقافة والشخصية.
ويؤكد على أن الموقف الابتدائي يمثل فترة حاسمة في النمو العقلي للفرد ويؤكد على أن العلاقات بين الطفل ووالديه ذات دلالة مهمّة من بين كل الظروف المؤثرة. واختار من بين الجوانب الأساسية لهذا الموقف المعقد الأسلوب المحدد الذي يُشبع به الوالدان رغبات الطفل الحسيّة والغذائية والعاطفية، ويتعاملان مع دوافعه العدوانية.
وبيّن أن هذا المحتوى يكشف عن البناء القاعدي لشخصية الفرد، لأنه يمثل النسق الأولي للأمن الانفعالي. فعلى سبيل المثال، إن كان الوالدان حنونين وغير ظالمين في تعاملهما مع بواعث الطفل ودوافعه الذاتية، فإن نسق الأمن الانفعالي سيكون إيجابيًا.
فتتماسك شخصية الفرد حول مشاعر الأمن الأساسية المتمثلة في الصداقة والثقة. وفي المقابل، لو كان الوالدان أقل حنوا وغير متساهلين فإن نسق الأمن الانفعالي للطفل يكون سلبيًا ويتسبب في تكوّن صورة للعالم على أنه مكان عدواني يصعب العيش فيه.