ماذا تتناول الأنثروبولوجيا المعرفية؟

اقرأ في هذا المقال


ماذا تتناول الأنثروبولوجيا المعرفية؟

تتناول الأنثروبولوجيا المعرفية الطرق التي يتصور بها الناس الأحداث والأشياء في العالم ويفكرون بها. ويوفر رابطًا بين عمليات التفكير البشري والجوانب المادية والفكرية للثقافة. وهذا الحقل الفرعي للأنثروبولوجيا متجذر في النسبية الثقافية للعالم بواس، ومتأثرًا باللغويات الأنثروبولوجية، ويتماشى بشكل وثيق مع التحقيقات النفسية للعمليات المعرفية.

إذ نشأ كمجال منفصل للدراسة في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث سعى علماء الإثنوغرافيا إلى اكتشاف وجهة نظر السكان الأصليين، معتمدين نهج معين للأنثروبولوجيا. كما تمت الإشارة في البداية إلى هذا الحقل الجديد بشكل مختلف على أنه علم العرق وعلم اللغة الإثني والأجناس البشرية الجديدة.

تركيز علماء الأنثروبولوجيا المعرفية على التصنيفات الشعبية:

في العقود الأولى من الممارسة، ركز علماء الأنثروبولوجيا المعرفية على التصنيفات الشعبية، بما في ذلك مفاهيم اللون والنباتات والأمراض، وخلال الستينيات والسبعينيات، حدث تعديل نظري وتحول منهجي داخل الأنثروبولوجيا المعرفية.

إذ افترض علماء هذا الجيل أن هناك عمليات عقلية تعتمد على بنية العقل، وبالتالي مشتركة بين جميع البشر، ووسع هذا النهج نطاقه ليشمل ليس فقط مكونات أنظمة الفكر المجردة، ولكن أيضًا لفحصها لتظهر كيف ترتبط العمليات العقلية بالرموز والأفكار.

ما هي مراحل تطور الأنثروبولوجيا المعرفية؟

كانت المنهجية والأسس النظرية وموضوعات الأنثروبولوجيا المعرفية متنوعة، حيث يمكن تقسيم مجال تطور الأنثروبولوجيا المعرفية إلى ثلاث مراحل هي كما يلي:

1- فترة تكوينية مبكرة في الخمسينيات تسمى العلوم الإثنية.

2- الفترة الوسطى خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، والتي تم تحديدها عمومًا بدراسة النماذج الشعبية.

3- الفترة الأخيرة التي بدأت في الثمانينيات مع نمو نظرية المخطط وتطور نظرية الإجماع.

ما هي سمات الأنثروبولوجيا المعرفية؟

1- تتوافق الأنثروبولوجيا المعرفية بشكل وثيق مع علم النفس؛ لأن كلاهما يستكشف طبيعة العمليات المعرفية.

2- كما أن الأنثروبولوجيا المعرفية اعتمدت على العناصر النظرية والتقنيات المنهجية من البنيوية واللغويات.

3- الأنثروبولوجيا المعرفية هي مجال واسع للبحث، على سبيل المثال، درست كيفية ترتيب الأشخاص للألوان والنباتات في فئات وكذلك كيفية تصور الناس للمرض من حيث الأعراض والسبب والعلاج المناسب.

4- كما لا تركز الأنثروبولوجيا المعرفية على اكتشاف كيفية تنظيم الشعوب المختلفة للثقافة فحسب، بل تركز أيضًا على كيفية الاستفادة من الثقافة.

5- تحاول الأنثروبولوجيا المعرفية المعاصرة الوصول إلى المبادئ المنظمة التي تكمن وراء السلوك البشري وتحفزه.

6- على الرغم من أن نطاق الأنثروبولوجيا المعرفية واسع النطاق، إلا أن منهجيتها تستمر في الاعتماد بشدة على تقليد طويل الأمد للعمل الميداني الإثنوغرافي والمقابلات المنظمة.

علماء الأنثروبولوجيا يعتبرون أن الأنثروبولوجيا المعرفية علم رسمي:

يعتبر علماء الأنثروبولوجيا أن الأنثروبولوجيا المعرفية علمًا رسميًا، حيث إنهم يؤكدون أن الثقافة تتكون من قواعد منطقية تستند إلى أفكار يمكن الوصول إليها في العقل. وتؤكد الأنثروبولوجيا المعرفية على قواعد السلوك، وليس السلوك نفسه. لا تدعي أنها يمكن أن تتنبأ بالسلوك البشري ولكنها تحدد ما هو متوقع اجتماعيًا وثقافيًا أو مناسبًا في مواقف وظروف وسياقات معينة، كما أنها لا تهتم بوصف الأحداث من أجل شرح أو اكتشاف عمليات التغيير. وعلاوة على ذلك، يعلن هذا النهج أن كل ثقافة تجسد نظامها التنظيمي الفريد لفهم الأشياء والأحداث والسلوك.

حيث يؤكد بعض العلماء أنه من الضروري تطوير عدة نظريات للثقافات قبل السعي نحو إنشاء نظرية ثقافية كبرى. بمعنى آخر، يصر الباحثون على أن الدراسات يجب أن تهدف إلى فهم ثقافات معينة في تكوين التفسيرات النظرية. وبمجرد أن يتم تحقيق ذلك، تصبح المقارنات بين الثقافات صحيحة وموثوقة وممكنة، مما يتيح نظرية عامة لجميع الثقافات.

الأنثروبولوجيا المعرفية تعتبر نهج نظري ومنهجي متميز في الأنثروبولوجيا:

في الخمسينيات من القرن الماضي أصبحت الأنثروبولوجيا المعرفية تعتبر نهجًا نظريًا ومنهجيًا متميزًا في الأنثروبولوجيا. ومع ذلك، يمكن إرجاع جذورها الفكرية إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث يشير عالم الأنثروبولوجيا ترانس إلى أن عصر التنوير أنتج وسيلة متميزة واحدة على الأقل لشرح العالم الطبيعي ومكان الإنسان بداخله، حيث كان أساس المعرفة البشرية، بما في ذلك المواجهات مع العالم المادي، موجودًا في العقل. وهكذا حولت الفلسفة انتباهها إلى تحليل العقل البشري والعمليات المعرفية.

مساهمات فلاسفة عصر التنوير في تطوير الأنثروبولوجيا المعرفية:

لطالما كان التفاعل بين المجتمع والعقل مجال اهتمام فكري للأنثروبولوجيا المعرفية، حيث أكد مفكرو عصر التنوير مثل روسو وهوبز ولوك أن هذا التقاطع كان ذو أهمية قصوى لفهم المجتمع. إذ افترض روسو أن البشر طيبون أساسًا، لكن دمرتهم الحضارة والمجتمع، وحث على العودة إلى الحالة الطبيعية.

وأكد هوبز أن البشر بطبيعتهم مجموعة متوحشة وأنانية. والمجتمع والحكومة ضروريان للسيطرة على طبيعة البشر الأساسية وكبحها، ومن ناحية أخرى، رفض لوك الفكرة الديكارتية للأفكار الفطرية وافترض أن البشر عند ولادتهم ألواح فارغة، ليسوا جيدًا ولا سيئًا، مع تجربة ثقافتهم التي تشكل نوع الشخص الذي سيصبحون عليه.

ما هي مساهمات العالم لوك في تطوير الأنثروبولوجيا المعرفية؟

ربما كانت أكثر مساهمة طويلة الأمد لفلاسفة عصر التنوير في تطوير الأنثروبولوجيا المعرفية هي دعوة لوك للتجربة، فلقد تصور معرفة العالم على أن لها جذور في التجربة الحسية، وجادل لوك بأن الجمع بين الانطباعات الحسية البسيطة أو الأفكار وتركيبها تُعرف على أنها محتويات ذهنية في مفاهيم أكثر تعقيدًا، من خلال التفكير بعد الإحساس، ويمكن للعقل أن يصل إلى استنتاجات سليمة، كما تم تصور الإدراك على أنه يبدأ بالإحساس ويستند إلى الخبرة، وفي التنافس مع التقليد التجريبي كان التوجه العقلاني، الذي أكد أن العقل وحده يمكنه تحقيق المعرفة.

ومع ذلك، فقد اعتبر لوك أن العقل يعتمد على الخبرة الحسية لمعرفة أي شيء عن العالم باستثناء تلفيقات العقل، حيث كانت المزاعم العقلانية للمعرفة غير شرعية بشكل متزايد، ولا يمكن للعقل الخالي من الخبرة الحسية إلا التكهن. وترجمت هذه المباني إلى مناهج علمية مختلفة.

كما كان يُنظر إلى العلم على أنه آلية لاكتشاف الحقائق المحتملة للوجود البشري وليس كأداة للوصول إلى المعرفة المطلقة للحقائق العامة، ولا تزال هذه المفاهيم المعرفية يتردد صداها اليوم في الأنثروبولوجيا المعرفية المعاصرة، وكذلك من بين مناهج أخرى، وفي الأساس النظري والمنهجي.

الوحدة النفسية للبشرية هي أحد المفاهيم الأساسية للأنثروبولوجيا المعرفية:

أحد المفاهيم الأساسية للأنثروبولوجيا الثقافية، وخاصة الأنثروبولوجيا المعرفية، هو الوحدة النفسية للبشرية. حيث تم تطوير هذا المفهوم من قبل الألماني أدولف باستيان في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. فبعد ملاحظة أوجه التشابه في العادات في جميع أنحاء العالم، خلص باستيان إلى أن جميع البشر يجب أن يكون لديهم نفس العمليات النفسية أو العقلية الأساسية، وأن هذه الوحدة أنتجت استجابات مماثلة لمحفزات مماثلة. في حين أن معظم علماء الأنثروبولوجيا يميلون إلى أخذ هذا المفهوم على أنه أمر مفروغ منه، فإن بعض علماء الأنثروبولوجيا الإدراكية المعاصرين يشككون في هذا الافتراض.

مساهمات فرانز بواس في الدراسات المعرفية في الأنثروبولوجيا الحديثة:

يمكن إرجاع الدراسات المعرفية في الأنثروبولوجيا الحديثة إلى فرانز بواس، حيث أدرك بواس، الذي تحول لأول مرة إلى الأنثروبولوجيا أثناء بحثه عن الإسكيمو وتصورهم للون الجليد والماء، أن الشعوب المختلفة لديها تصورات مختلفة عن العالم من حولهم.

ولقد تأثر بشدة لدرجة أنه بدأ في تركيز عمل حياته على فهم العلاقة بين العقل البشري والبيئة، وهذا العمل، الذي غذته تمرده ضد التفكير العنصري السائد في ذلك الوقت، من شأنه أن يوجه بواس نحو محاولة فهم نفسية الشعوب القبلية.

حيث تم التعبير عن هذا الجانب من عمله بشكل أفضل في كتابه “المشكلات النفسية في الأنثروبولوجيا”، ويتوج في كتابه  عقل الإنسان البدائي. كما شجع بواس الاستقصاءات عن الفئات القبلية للحس والإدراك، مثل اللون، وهي موضوعات ستكون حاسمة في التطور اللاحق للأنثروبولوجيا المعرفية.

نشأت بعض الدقة المنهجية والأسس النظرية للأنثروبولوجيا المعرفية من الأنثروبولوجيا اللغوية. حيث كانت فرضية سابير وورف، على وجه الخصوص، مقدمة مهمة لهذا المجال. ففي الثلاثينيات من القرن الماضي، صاغ اللغويان إدوارد سابير وبنجامين لي وورف وجهة نظر مفادها أن هياكل اللغة والثقافة تخلق فئات تصنيفية تشكل المعنى ووجهات النظر العالمية.

كما أن التطورات الموازية في علم النفس في الخمسينيات من القرن الماضي تدين بالكثير لعلم اللغة، كما نظر علماء النفس، غير الراضين عن التفسيرات السلوكية ل (BF Skinner)، إلى الرؤى اللغوية لإضفاء الشرعية على واقع الأحداث العقلية، حيث تظهر المناهج الأنثروبولوجية المعرفية المبكرة أن للثقافة تأثير على علم اللغة من الناحية النظرية والأساليب.


شارك المقالة: