نظرية الفعل الاجتماعي عند تالكوت بارسونز

اقرأ في هذا المقال


نظرية الفعل الاجتماعي عند تالكوت بارسونز:

يبيّن بارسونز في كتابه بناء الفعل الاجتماعي، أن المكان المعرفي لنظرية الفعل يمثل فيما يطلق عليه (الواقعية التحليلية)، فهناك عالم خارجي يسمى الواقع الإمبريقي، وهو ليس من تكوين العقل البشري، ولا يمكن أن يرد إلى نظام مثالي بالمعنى الفلسفي، لذلك فإن النظرية العلمية لا تعكس تمثلات مباشرة للواقع الإمبريقي، ولكنها تقترن وظيفياً معه، بحيث تضمن صياغة مثالية للظاهرة الإمبريقية، تبيّن تفاعلاً متواصلاً بين المفهوم والواقع، فالتصور العقلي الذي يمثل ركيزة رئيسية في تكوين النظرية العلمية يماثل مع الواقع باستمرار، عن طريق التقديرات التقريبية المتتالية.
يصدّق بارسونز بأن أحداث الواقع الإمبريقي، لا تحدث بشكل عشوائي، إنما يوجد نظام يمثل خاصية متأصلة في الواقع الإمبريقي، بما يتضمن من أحداث متنوعة، وهذا النظام مرتبط بنظام المنطق البشري، ومن هنا، فإن اختبار النظرية العلمية يؤكد بصورة كافية بناحية معينة من الواقع، وهكذا يحاول بارسونز بيان أن التصور العقلي الذي يمثل سمة مفهومة للواقعية التحليلية، لا يمثل ضرباً من الخيالية أو التأملات الذاتية المتجزئة عن الواقع، إنما هو تجريد لحقائق الواقع الإمبريقي، ومتفاعل معها بشكل دائم.
يبيّن ستيفن سافاج، أن المكون الأساسي لمعرفة بارسونز، يتمثل في فهمه وإدراكه لعملية المعرفة كشكل من التجريد، وفي هذه الحالة هناك نقطتان مرجعيتات في عملية المعرفة هما: التحليلي والواقعي، والتي مع بعضهما تكوّن أطروحة معرفية تتسم بأنها الواقعية التحليلية، وهي أطروحة تشمل انتقاداً ثنائياً للخيالية والإمبريقية.
يشرح سافاج تعاطفاً واضحاً مع أطروحة بارسونز، حيث يثبت بأن باسونز حسب كافة نقّاده، لم يقدم جسداً نظرياً تجريدياً بصورة مميزة فقط، ولكنه طوّر كذلك فهماً للمعرفة وتحولها، والمعرفة التي يقدمها بارسونز يمكن وصفها كاستراتيجية تخالف الإمبريقية، وكذلك المعرفة المتصلة بالنمط المثالي، والتي هي على الأقل ضمن الفهم السوسيولوجي، تمثل تطوراً وإحكاماً مفاهمياً.
إن النظريات لا يمكن أن تُرى كانعكاسات مرآة للواقع، وكعلاقة واحد لواحد بين المفاهيم والواقع، فهذه الأطروحة تندرج ضمن مغالطة الوضع السيء للمحسوس، مفهوم استعارة بارسونز من وايتهيد، بمعنى أن ما نراه ليس هو شيء كما هو، إنما هو موضوع فكري بينّاه وعينّاه، وكذلك فإن النظريات ليست تأملات، تمثل إثباتات مسبقة أحادية الجانب، كما هو الحال في النمط المثالي، وهكذا فإن المفاهيم العامة المستخدمة في بناء الفعل الاجتماعي (الفاعل، الغاية، الموقف، التوجيهات المعيارية)، قُدمت على أنها عناصر تحليلية، تجسد شكلاً من العلاقة المعرفية بين العالم الإمبريقي ومكوناته التحليلية.
ويزيد هانز أدريانسيس في كتابه تالكوت بارسونز والمعضلة في المفاهيمية، أن الموقع الابستمولوجي لنظرية بارسونز يبتعد عن الإمبريقية والاتجاه التحليلي الفيبري، إن بارسونز يستخدم الواقعية التحليلية ليبيّن الفرق بين تحليله وتحليل ماكس فيبر، في توضيح العلاقة بين المفهوم والواقع، وأساس هذا الفرق أو الاختلاف هو التمييز بين الأنماط المثالية، والعناصر التحليلية أو تصنيف المفاهيم العامة، ولكن على الرغم من ذلك فإن الاستنتاج الأسهل الذي يمكن اشتقاقه، هو أن الواقعية التحليلية متناقضة مفاهمياً.
ويشرح إدرياننسنس، أن نظرية الفعل لدى بارسونز تستحق عن جدارة لقب نظرية، طالما أنها كإطار مرجعي، لا تشكل انتظامات إمبريقية، بل تقدم تشكيلاً عاماً لما عناه بارسونز بالفعل الاجتماعي، والأبعاد الهامة التي يستند عليها، بالإضافة إلى المفاهيم المرغوبة من أجل دراسة وتفسير الفعل.
في إطار الواقعية التحليلية يثبت بارسونز أن الوقائع الاجتماعية، يمكن فهمها بأنها مقولات إمبريقية يمكن التحقق منها حول الظاهرة في ضوء مخطط مفاهيمي، وبذلك فإن الواقعة ليست هي الظاهرة، ولكنها قضية عن ظاهرة أو أكثر، وجميع النظريات العلمية تتكون على الحقائق، وهي لازمة لوصف أي نظرية ، إن نسق النظرية العلمية هو تجريد عام محدد ﻷن الوقائع التي تجسدها لا تشكل وصفاً كاملاً لظاهرة محددة، ولكن الوقائع تعكس تكوين النظرية في مدة معينة وبمعنى آخر، يجب التمييز بين الحقيقة التي تمثل مقولة أو قضية عن الظاهرة، وبين الظاهرة الملموسة التي تمثل كليات موجودة فعلياً.
لقد أثبت بارسونز، بأن تكوين العلم لا يستكمل عن طريق البحث الإمبريقي فقط، فحصيلة البحث الإمبريقي، ينبغي أن توضع في إطار نظري من خلال التصور العقلي، فوجود النظرية لازم، لكي تزودنا بالتصورات والفروض والعلاقات المنطقية والتأويلات التفسيرية، ولكي تمدنا في النهاية بمرتكزات التنبؤ العلمي، ولذلك فإن جوهر معاداته للبحث الإمبرقي، يتمثل في حالة التبعثر والتفرقة والوقوف عندها، ليس احتقاره أو نفيه المطلق، ولا بد من التلميح هنا إلى أن بارسونز قد وصف مؤلفة بناء الفعل الاجتماعي، بأنه عمل إمبريقي حيث اعتبر أفكار فيبر ودور كايم، وباريتو ومارشال، بيانات خام، يستطيع أن يستخدمها في كشف التشابه الكامن بينهم خلف الفروق السطحية الواضحة للعيان.


شارك المقالة: