يعود عصر استقرار اللمبارديين في إيطاليا، إلى ما شهده هذا العصر من ازدياد النفوذ البابوية وسلطانها السياسي، حتى غدت تمثل إحدى القوى الحاكمة في إيطاليا، إلى جانب اللمبارديين والدولة البيزنطية، والدليل على زيادة نفوذ البابوية في هذه الفترة، هو تضاعف ممتلكات الكنيسة في إيطاليا، وهذه الأملاك لم تضمن للبابوية مورداً مالياً ضخماً فحسب، بل أنها حققت لها نوعاً من النفوذ المادي والمعنوي في البلاد.
ازدياد نفوذ البابوية في إيطاليا:
قام أساقفة إيطاليا باستغلال فرصة الفوضى السياسية والاجتماعية التي سادت إيطاليا في ذلك العصر، فقاموا يمتلكون الأراضي ويتخذون لأنفسهم صفة الحكام العلمانيين، فقاموا بتعيين موظفي البلديات في المدن، و يشرفون على الأعمال العامة ويجمعون الضرائب وغيرها من الأعمال، التي هي من اختصاص الحكام العلمانيين، وقد ساعد رجال الكنيسة على تحقيق أغراضهم ومطامعهم في الاستيلاء على الأراضي، فقام صغار ملاك الأراضي في إيطاليا، يبحثون عن سلطة قوية يدخلون تحت حمايتها.
إلا أنهم لم يجدوا وسط الفوضى الناجمة عن النزاع بين اللمبارديين والبيزنطيين، سوى الكنيسة، فسلموها أراضيهم راضيينن واصبحوا شبه مستأجرين، مقابل حصولهم على نوع من الحماية والأمان، أما البابا فلم يكن يختلف من الوجهة النظرية، عن غيرة من الرعايا البيزنطيين، وذلك من حيث تبعته للنائب الإمبراطوري، إلا أن نفوذ النائب الإمبراطوري أخذ يضعف ويتضاءل تدريجياً، حتى أصبح غير ملموس، ولا سيما أن نواب الإمبراطور البيزنطي، لم يحاولوا من أن يجعلوا من روما مركزاً للدفاع ضد الخطر اللومباردي.
وإنما فضَّلوا الإقامة في رافنا، وتركوا روما وليس فيها إلا سيد واحد وهو البابا، وهنا أصبح البابا يملك معظم الأراضي في إيطاليا، حيث أن الممتلكات البابوية لم تقتصر على المنطقة المحيطة في روما، إنما انتشرت في أنحاء شبه الجزيرة الإيطالية، ومن ثم زادت عن طريق الهبات والعطايا، حتى امتدت إلى صقلية، بالإضافة إلى ممتلكات البابا خارج إيطاليا، ونلاحظ من ذلك ان الموارد الاقتصادية الواسعة، التي تمتعت فيها البابوية هي السر في القوة.
وتعرضت البابوية في عهد البابا “جريجوري العظيم” في عام 590 ميلادي، إلى خطر اللمبارديين، الذين استولوا على الأملاك البابوية في شمال إيطاليا، كما أدى توسعهم في وسط إيطاليا إلى تهديد الأراضي البابوية في تلك الجهات، وربما كان الخطر اللومباردي هو الذي جعل البابوية تحافظ على علاقتها الودية مع الدولة البيزنطية، حتى تحصل على نصير آخر يحميها من أخطار الدولة البيزنطية واللمبارديين جميعاً. وفي الحقيقة أن البابوية أخذت صيغتها العالمية القوية، التي ميزتها طوال العصور الوسطى، في عهد البابا جريجوري العظيم.
البابا جريجوري العظيم:
ولد البابا جريجوري العظيم أو جريجوري الأول، في روما عام 540 ميلادي، وقد كان من أسرة عريقة من النبلاء، وقد أظهر منذ صغره نزعة دينية قوية، فاستغل الثروة الطائلة، التي ورثها عن اهله في تأسيس ستة أديرة في صقلية، ودير سابع في روما، ومن ثم استقال من منصبه الكبير، الذي عينه فيه جستين الثاني، وفام بتوزيع ما تبقى لديه من مال على الفقراء والمحتاجين، مفضلاً الانقطاع للحياة الديرية، وعندما أجمع رجال الدين على اختياره لمنصب البابوية، في عام 590 ميلادي، على الرغم من تمنعه الشديد.
وبعد استلام البابا جريجوري لهذا المنصب، بدأت شخصيته الحقيقة في الظهور، لتُعبّر عن الصفات التي كان يتمتع بها أهالي العصور الوسطى، مثل ولعه باللاهوت واعتقاده في المعجزات وكرهه التراث الكلاسيكي، وحماسته للديرية، إلى جانب تلك الصفات، يتصف جريجوري بالتواضع الكبير، حتى اتخذ لنفسه لقب “خادم خدام الله”، إلا أنه في وظيفته البابوية اتصف بالكبرياء والاعتزاز بالنفس وسلطته العليا، حتى يوصل رسالة إلى الأساقفة والملوك عن مفاسدهم، ويأمرهم بالخير والاستقامة.
ونلاحظ عظمة جريجوري، أشد ما تكون وضوحاً في النواحي السياسية والإدارية والتبشيرية، في حكومته التي كانت في روما، أقرب إلى الحكومة الدينوية من الحكومة الدينية، فقام ينظم وسائل الدفاع ضد اللمبارديين، حيث قام بإعداد الجنود وتحصين الأسوار وسحن القلاع وتوجيه الهجمات، وكان يقوم بمفاوضة اللمبارديين باسم الشعب الروماني، حتى قام بعقد هدنة معهم في عام 592 ميلادي، وقام بعقد صلح نهائي مع ملكهم “اجيولف” في عام 598 ميلادي، قام فيها بإنهاء الحروب المتواصلة، التي استمرت قرابة ثلاثون عاماً، منذ الغزو اللومباردي لإيطاليا.
وقد أراد جريجوري أن يستغل إيراد البابوية الضخم في مختلف الأغراض التي تعود على أبناء العالم المسيحي بخير، مثل فدية أسرى المسيحيين، وتخفيف آلام المجاعات وإنشاء المستشفيات للعناية بالمرضى والجرحى، والعمل على تدعيم الكنائس وإصلاحها، بعد ان تعرض الكثير منها لعبث اللمبارديين، وقد سعى إلى أن يكون جميع أبناء المسيحية تحت رعايته.