هل يمكن التوصل إلى قوانين اجتماعية؟

اقرأ في هذا المقال


هل يمكن التوصل إلى قوانين اجتماعية؟

لا يستند التطلع إلى إقامة علم اجتماع علمي على القول بإمكان تكرار الوقائع الاجتماعية فحسب، ولكنه يستند كذلك إلى الاعتقاد في انتظام وقوع هذه الوقائع، فأنصار تطبيق المنهج العلمي في دراسة الظواهر الاجتماعية يرون أن المجتمعات الإنسانية امتداد للعالم الطبيعي أو هي جزء من الكون الواسع، لا تسير بطريقة عشوائية وإنما تخضع لمجموعة من القوانين التي يمكن الكشف عنها من خلال الدراسة والاستقصاء العلمي.

وقد كان ابن خلدون هو أول من أطلق هذا القول، حيث أشار إلى أن المدينة والعمران البشري قوانين ثابتة، وأن تاريخ الإنسان والمجتمعات لا يخضع للصدفة وإنما للحتمية الاجتماعية، ولمجموعة من القوانين يمكن للباحث الكشف عنها، كذلك فقد أكد على الدراسة الواقعية للمجتمع باستخدام الأساليب الموضوعية، كالملاحظة والتجربة والمقارنة، بدلاً من الاقتصار على التأملات الفلسفية الفارغة.

وقد شاع مؤسسوا علم الاجتماع في أوروبا هذا الرأي مثل كونت ودور كايم، فقد أكد دور كايم في مقدمة العدد الأول من الحولية الاجتماعية، إن الظواهر الاجتماعية لا تستجيب للعشوائية، وإنما تستجيب لقوانين منظمة يمكن للفكر الإنساني التوصل إليها بشرط استخدام قواعد المنهج العلمي.

هل يستطيع الباحث أن يضع قوانين محددة في علم الاجتماع؟

وعلى الرغم من اقتناع العديد من الرواد الأوائل لعلم الاجتماع بانتظام الظواهر والوقائع الاجتماعية وخضوعها لقوانين منظمة، وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن ونصف على نشأة هذا العلم، إلا أن الباحث المدقق لا يستطيع وضع يده على قوانين محددة، حيث استطاع الباحثون في هذا العلم الكشف عنها خلال هذه السنوات الطويلة من البحث والعناء ولعل هذه الحقيقة هي ما أدت ببعض الباحثين مثل موريس كوهين إلى القول باحتمال عدم وجود ما يطلق عليه القوانين الاجتماعية، وذلك على الرغم من إيمانه بانتظام الظواهر الاجتماعية وعدم خضوعها للعشوائية.

ويوضح كوهن سبب عدم تمكن العلماء حتى الآن من الكشف عن القوانين التي تحكم العالم الاجتماعي، بإشارته إلى تعقد الظواهر الاجتماعية بالمقارنة بالظواهر الطبيعية، فالقوانين الطبيعية في وجودها عبارة عن دوال رياضية تحليلية بسيطة، يتضمن كل منها عدداً قليلاً نسبياً من المتغيرات، وذلك على العكس من القوانين الاجتماعية التي لا يمكن أن تكون بهذه البساطة نظراً لاحتواء أية ظاهرة اجتماعية على عدد غير محدود من المتغيرات التي تنتظم حول نماذج معقدة من العلاقات.

ولعل هذا التعقد هو الذي يؤدي ببعض الدارسين إلى القول في بعض الأحيان باستحالة التوصل إلى القوانين التي تحكم هذه الظواهر المعقدة، أو حتى بعدم وجود مثل هذه القوانين أصلاً.

ويحاول أنصار القول بإمكانية تطبيق المنهج العلمي في دراسة الظواهر الاجتماعية، وبإمكانية التوصل إلى قوانين اجتماعية، أن يعطونا نماذج لبعض القوانين الموجودة في علم الاجتماع إلى قانون دور كايم عن الانتحار، فقد كشفت دراسات هذا الباحث عن أن معدل الانتحار يتناسب عكسياً مع درجة التكامل الاجتماعي الذي يميز أية جماعة من الجماعات الإنسانية.

وعلى الرغم من أن هذا القانون يعد من أدق القوانين التي استطاع علم الاجتماع التوصل إليها خلال تاريخه الطويل، إلا أنه لا يمكن اعتباره قانوناً علمياً بالمعنى الطبيعي، فهو لا يمكن مقارنته بالقوانين في علوم الطبيعة والكيمياء والأحياء، حيث أنه يعاني من أوجه نقص تعاني منها كافة القوانين المماثلة في علم الاجتماع.

فالقوانين الاجتماعية تتسم بالنسبة بمعنى ارتباطها ببناءات ثقافية معينة، بحيث قد لا تنطبق على ثقافات مختلفة، يضاف إلى أن ذلك القوانين الاجتماعية تشير إلى ما يحدث إذا تساوت كافة المتغيرات العديدة والمعقدة الأخرى، وإذا كان الشرط الأخير أمر ممكن التحقيق في العالم الفيزيقي أو الطبيعي، بسبب بساطة الظاهرة الطبيعية، فإنه من المستحيل تحقيقه في العالم الاجتماعي.

ونتيجة لتعقد الظاهرة الاجتماعية وتعدد العوامل المحددة لها، فإننا نجد أن الباحثين يخرجون بنتائج مختلفة من دراسة قضية واحدة في عدة مجتمعات مختلفة، فقد يخرج أحد الباحثين من دراسته لأحد المجتمعات في إطار مواقف معينة، إلى أن المحرك الأول لسلوك الناس والجماعات هو المصلحة الاقتصادية.

في حين قد يخرج باحث آخر لمجتمع ثاني أو لنفس المجتمع في مواقف مختلفة، إلى أن المحرك الأساسي للفعل الاجتماعي هو الدافع الديني، ولعل ما هو أكثر إشكالاً هو خروج مجموعة من الدارسين لنفس الظاهرة بنتائج مختلفة لاختلاف وجهات النظر ومنظورات الدراسة.


شارك المقالة: