قصة صاحب الجنتين:
إن قصة صاحب الجنتين يضرب الله عز وجل فيها المثل لحقيقة هذه الدنيا التي نعيش فيها، الدنيا التي لا تعادل عند الله جناح بعوضة، الدنيا في الآخرة ضرب فيها النبي عليه الصلاة والسلام مثلًا قال فيه: “إنما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليمّ ولينظر بما يخرج”.
تتحدث القصة هنا عن أخوان وبعضهم قال: أنهم أصحاب، حصلا على أموال في زمنٍ من الأزمان، فأحدهما كان صالحاً والآخر كان كافرًا، أما المؤمن فقد تصدق بأمواله كلها في سبيل الله على الفقراء والمساكين وعاش حياة بسيطة، فاقتصد في حياته وتصدق بجميع أمواله؛ لأنه ابتغى الآخرة ولم يبتغي الدنيا.
أما صاحبه الكافر فقد بخِل بكل أمواله وجعلها في الزروع والثمار وأعطاه الله تعالى جنتين من أكثر الجنان نعيمًا وملكًا، فقال تعالى: “وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا” الكهف:32.
فقد فُتن هذا الكافر بأمواله، وفي يوم من الأيام زار المؤمن هذا الكافر من أجل أن ينصحه لله عز وجل ويذكره بأن لا تغره هذه الدنيا؛ لأن لكل شيء نهاية وأن الشخص إذا أعطي مالًا كثيرًا استغنى وكفر بربه وصدّ عن عبادة ربه، فقال له المؤمن: أتنظر إلى النعيم والخيرات فإنها ستزول في يوم من الأيام، فرد عليه الكافر ألا تنظر إلى هذه الخيرات وترى هذه الجنة إنها ستبقى للأبد ولن تزول، فقال تعالى: “وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا – وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا” الكهف:35-36.
وقال أنا لا أظن أن هذه الجنة ستخلص يومًا ما فالمياه موجودة والخيرات كثيرة والنعيم موجود فالجنة هذه خالدة مخلدة ما أظن أنها ستذهب في يومٍ ما، والمؤمن ينصح فيه ويذكره ويقول له عليك أن تشكر ربك عليها فإنها ستزول والكافر يقول لا إن هذا لن يزول أبداً.
وصار المؤمن يقول أن هناك ساعة ستقوم وأنه هناك يوم بعث وهناك قبر وسترجع لربك ويقول الكافر للمؤمن من شدة بطره ومن كثرة أمواله ونعيمه، لا يوجد بعث ولا عذاب ولا قبر ولا يوجد يوم قيامة فعلينا أن تتمتع في الدنيا وما فيها من خيرات، حتى ولو أني افترضت أني سأعود إلى ربك الذي تقول عنه فإنه سيعطيني خيرًا من هذا كله ولن ينساني أيضًا ونعيم أفضل من هذا وأولاد أكثر من أولادي، والمؤمن يقول له اتق الله ما الذي تقوله أيّ كُفرٍ أنت فيه.
هناك بعض الناس تعيش على قدر حالها ولا تكون غنية ولكنها تصوم وتصلي وتتصدق وتقرأ القرآن وهناك من عاهد الله ويقول لربه ارزقني يا الله لكي أتصدق وأكون من الصالحين، وحينما يأتيهم الله من فضله وصار الفقير غني وصار المسكين عظيم وأتاهم الله ما تمنّوه بخلوا على الله وتولوا عنه وهم معرضون، فصار يعقبهم نفاق في قلوبهم، فلما أعطاهم الله ورزقهم أعرضوا عن ربهم وتركوا صلاتهم وحياتهم ودينهم واتبعوا أموالهم وشهواتهم.
فاشتد الحديث والنقاش بين المؤمن والكافر وصار يقول له: قال تعالى: “قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا” الكهف :37. فأصلك أنت من التراب، هل تنظر للتراب الذي تستهتر به فهو أصلك، فأصل الإنسان من نطفة ومن التراب وتعتبر هذه الأشياء كلها مهينة لك، فأنت مغرور في نفسك، فالله تعالى هو الذي سواك وخلق لك عينان ولسان وشفتان ويدان ورجلان، فكل ما حولك هذا كله من عند ربك ولا يجوز أن تتكبر عليه وتنكره.
حينما ذكر الله تعالى قوله: “لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا” الكهف:38. هنا بدأت النصائح تتوالى وبدأ المؤمن يشتد في نصيحته لهذا الكافر الذي بلغ أعلى مكانة بالطغيان والنسيان لرب العالمين وفي الاستهزاء بيوم البعث وظلت النصائح تتدرج وراء بعضها البعض.
كيف ضرب الله مثلا الدنيا بأجمعها بقصة الرجل الذي ملك الجنتين.
إن الداعية إلى الله تعالى لا ييأس من الناس ولا يقنطهم من رحمة الله، ولا يمنعهم من الخير الذي في أيديهم ولكنه ينصحهم ويقول لهم تمتعوا ولكن احمدوا الله واشكروه وأعطوه حقه، ولذلك قال المؤمن لصاحبه الكافر صاحب الجنتين، قال: “لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا” فجنتك هذه التي في الدنيا تنعم بها ولكن انسب النعمة لله تعالى، فلا بأس أن تتنعم وأن تأكل منها ما شئت ولكن أعطي الله حقه فيها ولا تعصي الله فيها آمن بالله وآمن باليوم الذي ستموت فيه اجعل شيئاً من هذا الخير لله تعالى وانسب الفضل لله، قال تعالى: “وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا – فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا – أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا” الكهف:39-40.
أي أنه إذا دخلت إلى النعيم الذي أعطاه الله لك قل ما شاء الله، وأنت تملك أشياء لا أملكها أنا ولكن أنا عندي إيمان بالله وعندي علاقة بيني وبين ربي، أنا أريد من ربي جنة الآخرة وهو خير ممن طلعت عليها الشمس إني أريد الجنة التي لو خرجت منها حورية تضيء ما بين السماء والأرض وتملئ الريح، أنا أريد الجنة التي جميع أشجارها سيقانها من ذهب، وأنت أيها الكافر هذه جنتك إذا ما أطعت الله فيها وإذا ما شكرت الله وإذا ما اغتنمت هذه الجنة بطاعة الله فسيرسل الله عليها حسبانا من السماء، أي بمعنى عذاب من عنده كيف سيأتي وسينزل فهذا علمه عند الله.
فأي شيء يبعثه الله من السماء قد يدمر جنتك سواء كانت رياح أو صاعقه، فكله سيأتي بأمر الله فقد تصبح جنتك هذه كالأرض الملساء ولا يوجد فيها لو نبتة واحده ولا تستطيع أنت ولا خدمك أن تحرثونها إذا ما شكرت الله فيها أو أنه سيأتي عليك يوم ستبلع هذه الأرض كلّ ماءها ويصبح ماءها غورا.
فظل الكافر مُصرّ على رأيه، ويقول له المؤمن أنا نصحتك وحذرتك وخوفتك بالله، فقال له الكافر: افعل ما تفعل إن جنتي هذه لن تبيد ولن تذهب ولن يحصل لها أي شيء، وبعدها افترق الإثنين مع بعضهما، فذهب المؤمن إلى بيته الصغير المليء بالعبادة وإلى أولاده آمنًا في سربه ومعافًا في جسده وعنده قوة يومه وحائز على الدنيا بحذافيرها.
أما الكافر فظلّ يستمتع بجنته مغترًا بها حتى جاءه ذلك اليوم ونزلت العاصفة وجاءت الصواعق وبدأ عذاب الله ينزل وإذا بالثمر يحرقه الله تعالى كله وإذ بالعواصف والسيول التي تدمر مزرعته بأكملها وإذا فيه يخسر كل شيء ويفلس ويفقد نعيمه، فضاعت الدنيا أمام عينيه وضاع كل الرزق بلمح البصر، فقال تعالى: “وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا – وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا” الكهف:42-43.
وصار يقلب كفيه وندم على ما مضى ويقول لنفسه ليتني لم أشرك بالله تعالى، فشركه بالله هو سبب دمار هذه الجنة وسبب ضياع أمواله وتغير حاله وإنه لم يبالي في كلام صاحبه فعذاب الله عندما ينزل ويحلّ على أحد لا يوقفه شيء، ولا يؤخره شيء. فهذا الرجل الكافر أضاع الدنيا والآخرة من عمل يده ومن استهتاره بكلام صاحبه المؤمن.