التشوق والحنين إلى الديار المقدسة في الشعر الأندلسي

اقرأ في هذا المقال


تميز شعراء الأندلس في مجال الشعر الذي جعلوه مواكبًا لجميع الأحداث والصراعات التي تجري في بلادهم، وقد نهجوا نهج شعراء المشرق العربي، وأُغرموا بأدبهم وعلومهم وكانوا مقلدين لهم في جميع العلوم والآداب، ولكن نتيجة للتطورات السياسية والاجتماعية والفكرية وتتابع الأحداث على أرضها دفع بالشاعر الأندلسي إلى فك تلك القيود والتحرر، واستحداث أغراض شعرية جديدة تواكب كل هذه الأحداث، ولأن الشاعر هو ابن البيئة يتأثر بما يجري حوله من أحداث ويوظفها في شعره ليعبر عما يجول في خاطره حيث لجأ لنظم شعر الحنين وتميز في ذلك.

تعريف الحنين

يمكننا تعريف مصطلح الحنين بجميع مشتقاته بأنه عبارة عن إيحاءات وجدانية عاطفية، أي أنها تُعبر عن رقّة الإحساس والشوق والرحمة والحزن والفرح.

ويقصد بالحنين في المعجمات العربية بأنه صوت القوس، والحنين يقصد به البكاء والطرب، وكذلك يدل على العطف والرحمة، والاستحنان هو الاستطراب، وارتبط الحنين عند العرب بالوطن ارتباطًا وثيقًا.

ومن خلال المعاني السابقة أعلاه لكلمة الحنين يتبين لنا أن الحنين عند العرب متصل ومرتبط بالمفهوم المكاني للغربة، فالغربة عند العرب تنتج من البعد عن الوطن ويتبع هذا البعد الحنين والاشتياق، أما إذا خرج هذا المصطلح عن مفهومه الحقيقي واتجه نحو مفهومه المعنوي أصبح عند أغلب الشعراء يدل على الغربة حتى وهم داخل أوطانهم.

والحنين بجميع مفاهيمه ودلالاته يعني الانتماء إلى أشياء تم فقدها سواء أكانت أشياء مادية أو معنوية، فقد يبعد الإنسان عن وطنه وبذلك يشعر بالحنين إلى أشياء مادية مثل القرية، أو يبعد ويغترب عن عادات زائفة دخلت إلى البلاد حاملة فكر أجنبي فيحن بذلك إلى العادات والقيم الأصيلة التي كانت في موطنه.

شعر الحنين في الأندلس

تميز أهل الأندلس بانتشار الشعر بين أهله على اختلاف طبقاتهم، وهو لم يتوقف على الشعراء فقط، وإنما شاركهم في ذلك وتميزوا فيه الكثير من أهل الأندلس، ولعل ذلك يعود إلى الفطرة التي فطروا عليها من محبة وشغف بالشعر، وكذلك يعود إلى نظامهم الثقافي المبني على العلوم العربية وآدابها، ولن ننسى دور البيئة الخلابة، وقد نظم الأندلسيون في جميع أغراض الشعر وجاءوا فيه فيه ببعض الفنون الحديثة.

ومن الفنون الحديثة نجد شعر الحنين، وعلى الرغم من كونه فن تقليدي إلا أن شعراء الأندلس توسعوا في القول فيه لمواكبة الظروف التي فرضتها عليهم الأحداث والتطورات في مجتمعهم، وتفوقوا فيه على شعراء الشرق، وقد طغى على شعر الحنين في الأندلس الطابع الذاتي للتجارب الناتج من بيئتهم الطبيعية والاجتماعية.

وإذا أمعنا النظر سوف نشاهد أن أغلب من رحلوا عن الأندلس هم من الشعراء، أو من جادت أقلامهم بالشعر، وأهم المعاني التي تناولتها قصائدهم هي الشوق إلى الوطن، وتَذكُر أيام الصبا، والعهود السعيدة في بلادهم، ومثال عليه ما نظمه أبو الحسن علي بن سعيد العنسي واصفًا ذكرياته السعيدة في وطنه وتصوير حالته في الغربة حيث يقول:

أصبحت اعترض الوجوه ولا أرى

ما بينها وجها لمن أدريه

عودي على بدني ضلالا بينهم

حتى كأني من بقايا التيه

ويح الغريب توحشت ألحاظه

في عالم ليسوا له بشبيه

وهذا الكاتب أبو محمد بن القاسم الحجاري يصف ما حلَّ به بعد أن رحل إلى المشرق، وقد عانى من ألم الفراق وسكن في حلب حيث يقول:

أين أقص من أرض حلب؟

أمل في الغرب موصول التعب

حن من شوق إلى أوطانه

من جفاه صبره لما اغترب

دوافع الحنين إلى الديار المقدسة في الشعر الأندلسي

حنَّ الشاعر الأندلسي وبكى بحرقةٍ وشوقٍ إلى الديار المقدسة حيث الكعبة المشرفة، والمدينة المنورة، والروضة النبوية الشريفة، وقبر سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك القدس، فإذا انبعث ضوء من جهة هذه الديار المقدسة فإن أرواحهم تمتلئ شوقًا لزيارتها والنظر إليها.

وكان أهل الأندلس قديمًا إذا نفرَ منهم أحد ذاهبين إلى الحج كتبوا القصائد الموجهة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت محملة هذه الرسائل والقصائد بالأشواق والحنين والتوسل ثم يبعثونها مع الذاهبين إلى الحج لكي يتم وضعها على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكعادة الشعراء دعا شعراء الأندلس لديار الحجازية بالسقيا والرحمة، ومن هذه الدوافع ما يلي:

1- الدافع الديني: كانت بلاد الأندلس بعيدة عن المشرق العربي كثيرًا ولذلك عجز الكثير من أهل الأندلس عن تأدية مناسك الحج، وزيارة الديار المقدسة مما أشعل مشاعر الحنين في قلوبهم، ودفعهم إلى نظم شعر الحنين إلى تلك الديار المقدسة.

وإضافة إلى ذلك ما عاناه الشعراء من إقصاء ونفي عن بلادهم مثلما حصل مع ابن الخطيب حين تم نفيه عن موطنه في الأندلس وأخذ يتنقل بين بلاد المغرب وغرناطة، وكل ذلك أشعل لهيب الشوق والحنين في نفوسهم، متمنين زيارة الديار المقدسة واعتبار أنفسهم مقصرين في هذا.

2- الصراع الديني: احتدَّ الصراع بين المسلمين والنصارى في الأندلس، وسيطروا على المدن الأندلسية، ولم يكن أمامهم خيار إلا ترك بلادهم والبحث عن بديل، فتوجهوا إلى الديار المقدسة طالبين العون والخلاص من الظلم والاضطهاد والذي حلَّ بهم، وكذلك التخلص من الأزمة النفسية، وتطهير قلوبهم بعد أن انغمسوا بالشهوات والملذات التي كانت سبب في ما حلَّ بهم من ذل ومهانة لاحقًا.

3- فساد الأخلاق السياسية والاجتماعية: لم يجد الأندلسيون بديلًا عن الرحيل عقب الظلم والاضطهاد الذي حلَّ بهم في بلادهم، خاصة الزهاد والمتصوفة، فقام الشعراء بالتوجه بشوقهم إلى رمز آخر وهو الشوق والحنين إلى الديار المقدسة والمشرق العربي، وفي ذلك يقول ابن جبير:

حنينا إلى أحمد المصطفى

وشوقًا يهيج الضلوع استعارا

لقد توجه شعراء الأندلس إلى الديار المقدسة كبديل ديني وهو الحل البديل، وغلب على قصائدهم الشعور بالذنب، والتقصير في الدين، بسبب ما فعلوه من ذنوب ومعاصي، والتي كانت السبب في انهيار بلادهم وخروجهم منها، ولم يكن هناك حل إلا أن يرجعوا إلى دينهم ويطلبوا المغفرة.

مواضيع شعر الحنين إلى الديار المقدسة عند الأندلسيين

حنَّ الشاعر الأندلسي إلى الديار المقدسة التي يستمد منها العِبر والعِظة، فهذه الديار هي الديار التي وقف عليها الأنبياء والرسل عليهم السلام، فدفعه ذلك إلى نظم شعر الحنين إلى الديار المقدسة، ورغبته الشديدة إلى الرحيل إليها ورؤية معالمها الإسلامية ومن هذه الأماكن التي حنَّ لها الشاعر الأندلسي وذكرها في شعر الحنين هي:

1- الحنين إلى مكة المكرمة: إن الحنين إلى مكة المكرمة يعتبر من أكثر المشاعر التي سيطرت على قلوب أهل الأندلس، وقد عبر أهل الأندلس وشعرائهم عن الشوق والحنين بقصائد الشوق والحنين، ومثال على ذلك ما نظمه الشاعر عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي حيث يقول:

أمكة تفديك النفوس الكرائم

ولا برحت تنهل فيك الغمائم

وكفت أكف السوء عنك وبلغت

مناها نفوس كي تراك حوائم

فإنك بيت الله والحرم الذي

لعزته ذل الملوك الأعاظم

2- الحنين إلى المدينة المنورة: يثرب وهي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويظهر هذا الشوق والحنين في أشعار ابن الآبار، ويتمنى أن يزور المدينة المنورة حيث يقول:

لو عن لي عون من المقدار

لهجرت للدار الكريمة داري

وحللت أطيب طينة من طيبة

جارا لمن أوصى بحفظ الجار

3- الحنين لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم: حيث نجد هذا الشوق والحنين متمثلًا في أشعار شعراء الأندلس، وهذا أبو الفازازي ينظم الكثير من الأشعار التي تعبر عن حنينه إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول في نونيته:

يا سيد الرسل المكين مكانه

ومقدم وهو  الأخير زمانه

ناداك عبد أخرته ذنوبه

والشوق تلفح قلبه نيرانه

وفي النهاية نستنتج أن شعور الندم واقتراب النهاية قد سيطر على أهل الأندلس وخصوصًا بعد الأحداث التي جرت في البلاد، دفعت أهل الأندلس عامة والشعراء خاصة إلى الرجوع إلى الله وطلب المغفرة، ولجأوا إلى شعر الحنين إلى الديار المقدسة لتعبير عن شوقهم وحنينهم لهذه الديار.


شارك المقالة: