الحركة النقدية في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


في العصر العباسي من خصائصه وسماته التي خلفتها على جميع تفصيله، ومنها النقد الذي اتصف بصفات ذاك الوقت، وكان قريب إلى الانتباه وإلقاء الملاحظة إلى الكلام الموزون بعكس النثر وكان أساسه يتمركز على الفطرة، حيث الاستماع للنص والحكم بِإجادته وإظهار مواطن الضعف فيها وتصويبها، وتطور النقد في هذه الفترة كثيرًا وكان يتسم بالقوة، وفي هذا المقال سنوضح النقد وسماته في هذه الفترة.

النقد الأدبي في العصر العباسي

إذا أمعنا النظر في ذاك الوقت نجد أن النقد لم يكتفي بطريقة الحياكة والشكل أو توضيح المعنى والمفردات بل اهتموا على فهم الكلام الموزون وتذوقه، ويدركون مميزاته واختلافه عن البقية وَيفاضلون بين الرواد ويجعلونهم في مراتب مفضَّلين على بعضهم.

كما يهتمون بالبيئة المحيطة والمجتمع وأثرهما في بلاغة وفصاحة رواد الأدب، وَيوجهون نقدهم من أجل تقويم النصوص والتأكد من نسبتها إلى صاحبها.

ونلاحظ أن النقد يتقدم بخطى سريعة نحو التطور في تلك الفترة، ونراه متواجد في مناقشات أهل الأدب، وكان من أهم أسباب التطور النقد أيضًا في تلك الفترة الاندماج بالعجم مثل الفرس وغيرهم مما دفع النقد إلى التقدم والتطور.

ومن الأمثلة النقدية في ذلك العصر حديث بشار بن برد: ” تلاعب تينان البحور وربما رأيت نفوس القوم من جريها تجري”، وكان قد أورد لفظ تينان البحور منقده سيبويه وصححه تيتان البحور، ونقده كذلك الأخفش كذلك وقال: ” لم يُسمع بنون ونينان”، فعندما عرف بشار في ذلك غضب. 

وقد كان لرواد الكلام الموزون نماذج نقدية فريدة من نوعها منها قول بشار موجهًا لأبي العتاهية: ” أنا والله استحسن اعتذارك من دمعك حيث تقول:”

كم من صديق لي أسارقه

البكاء من الحياء

فإذا تأملَّ لامني

فأقول ما بي من بكاء

لكن ذهبت لأرتدي

طرفت عيني بالرداء

فرد أبو العتاهية: ” لا والله يا أبا معاذ: ما لذتُ إلّا بمعناك ولا اجتنيت إلّا من غرسك حيث يقول:”

شكوت إلى الغواني ما ألاقي

وقلت لهن ما يومي بعيد

فقلنَّ بكيت فقلت لهن كلا

وقد يبكي من الشوق الجليد

ولكني أصاب سواد عيني

عُويد قذى له طرف حديد

فقلنّ فما لدمعِهما سواء

أكلتا مقلتيك أصاب عود

ومن مظاهر أن كلاهما وضح سبب بكائه في أبياته إلا أن أبا العتاهية أسهب في التوضيح بأسلوب الجدال بينه وبين الغواني، وهذا أضفى على الأبيات لمسة فنية واضحة.

أهم القضايا النقدية في العصر العباسي

1- مسألة المفردات والمعنى: هي من أبرز المسائل التي اهتم بها رواد النقد في السابق والحاضر وازدهر النقد بأسلوب التفكير، فبرزت مجموعات النحو بين الذين اهتموا باللغة وأسسوا لها قواعدها، ومن هنا بدأ الاهتمام بالمفردات وعَّدوها مستقلة عن المعنى، واشتد الصراع بخصوص هذه المسألة حيث طرح رواد النقد هذه المسألة في الآداب كافة.

واتفقوا أن لكل موضوع مفرداته الخاصة التي يتألف منها وما يدور في المدح لا يتناسب في الهجاء، ولهذا نجدهم قد عابوا المفردات التي لا تتناسب مع الموضوع ومثال على ذلك نقدهم أبو تمام في مدحه أبو جعفر قائلاً:

يا أبا جعفر جعلت فداك

فائق حسن الوجه حسن قفاك

كلمة القفا لا تستخدم في مواضيع المدح إنما للذم أو الهجاء وكانوا يفضلون التناسب بين المفردات والمحتوى، وتكون واضحة سهلة في مواضع اللين وصلبة في مواضع الخشونة ومثال على ذلك فقد عابوا على مسلم بن الوليد قوله:

فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة

يثني عليها السهل والاوعار

فعابوا عليه جمعه بين المفرد والجمع في قوله السهل والاوعار وفضلوا بدل ذلك لو أنه قال السهول والاوعار.

ومن الأمثلة أيضًا على اهتمامهم بالمفردات والمعنى موقف أبي العتاهية من ابن مناذر حين قال له: ” شعرك مهجّن لا يلحق بالفحول، وأنت خارج عن طبقة المحدثين، فإن كنت شبهت بالعجاج، رؤبة فما لحقتها، وأنت في طريقهم، وإن كنت على مذهب المحدثين فما صنعت شيئًا أخبرني عن قولك:

ومن عاداك لاقى المرمريا

أخبرني عن المرمريا ما هي؟ فخجل ابن مناذر وما راجعه حرفًا وكان بينهما تناغر.”

كذلك الأصمعي نقد أبيات العباس بن الأحنف وحكم له بجودة معنى وسوء المفردات في قوله:

اليوم مثل الحول حتى أرى

وجهك والساعة والشهر

إنَّ الذي يظهر عند الذي

أظهر كالقطرة في البحر

لو شق عن قلبي قرى وسطه

ذكرك والتوصيل في سطر

يا من تمادى قلبه في الهوى

سال بك السيل وما تدري

أبعد أن قد صرت أحدوثة

في الناس مثل الحسن البصري

وهنا نتوصل إلى أن رواد النقد قد تناولوا الحديث الموزون وقالوا أنه يتألف من المفردات والمعنى ولقد تناولوا نقد الكلام المنظوم في هذه الجهة، ومن السبَّاقين في تناول المفردات والمحتوى في النقد بشر بن المعتمر حيث يقول:

“إياك والتوعّر فإن التوعّر سلمك إلى التعقيد والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريمًا فليلتمس له لفظاً كريماً فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، وحقهما أن تصونها عمّا يفسدهما ويهج منهما.”  

ومن أهل النقد الذين أولوا هذه المسألة اهتمامًا خاصًا مثل الجاحظ حيث يقول: ” المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وصحة الطبع وجودة السبك.”

2- السرقات في الكلام المنظوم: لقد ظهرت هذه المسألة منذ القدم، وتنبه رواد النقد على وجودها ومثال على ذلك كلام امرؤ القيس:

أن النثر في هذا العهد قد حاز على اهتمام رواد الأدب حيث عجَّ وقتها بأشكال النثر المتنوعة من خطب ووصايا وغيرها وبرز في هذه الفترة العديد من الكتَّاب ومنهم ولاة الأمر ومن الرعية نذكر الجاحظ وغيره الكثير

وقوفًا بها صحبي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

واتَّهامه بسرقتها من طرفه حين قال:

زقوفًا بها صحبي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلد

ونجد تشابه كبير بين البيتين بدون اختلاف بينهما سوى بالقضية وإذا ذهبنا إلى ذاك في عصر بني العباس نلاحظ أنها قد كثرت، ومن ذلك ما ورد عن بشار بن برد، وأبو نواس حيث كان يُثار الجدل في مقطوعاتِهم ما تم سرقته منهم، ويرى أبو بكر الصولي عن بشار أن أغلب المستجدين قد أخذوا عنه وتأثروا به ومنهم مسلم الخاسر حين أنشد:

من راقب الناس مات غمًا

وفاز باللذة الجسور

وهو شبيه لما أنشده بشار بن برد:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيبات الفاتك اللّهج

فقال بشار في ذلك: ” فتأخذ المعاني التي قد عنيت بها ونقبت في استنباطها فتكسوها ألفاظًا أخف من ألفاظي حتى يروى ما تقول ويذهب شعري، لا أرضى عنك أبدًا قال: يتضرّع إليه ويشفع له القوم حتى رضي عنه.”

ومن السرقات أيضًا من بشار ما حدَّث به ابن قتيبة أن العتابي سرق منه قوله:

تبنى سنابكها من فوق أرؤسهم

سقفا كواكبه البيض المباتير

حيث قال بشار:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

وفي النهاية نستنتج إن النقد ازَدهر في عهد بني العباس وكان له سماته الخاصة التي تميز بها عن باقي العهود واهتموا بالمفردات الملائمة للمعنى، وكذلك تنبهوا لسرِقات بين رواد الأدب ومن أبرز رواد الأدب الذي تم سرقة إنتاجهم بشار بن برد وأبو نواس وغيرهم.


شارك المقالة: