توظيف الموروث في شعر الأعشى

اقرأ في هذا المقال


يُعدُّ الكلام المنظوم الجاهلي من أقدم أشكال الأدب المشرقي وهو يتناول نتاج أقوام عريقة وليدة الصحراء والبيئة البدوية المتفردة بلغتها وثقافتها وثوابتها، فقد تمكن رواد الأدب من تصوير ذلك المجتمع وحالهم المعيشي بجميع أبعاده فهو سجل يوضح تجارب وثقافة أهل المشرق، وسنتناول في هذا المقال أحد أبرز رواده الذي كان له مكانة مرموقة في مجتمعه ألا وهو الأعشى الذي تميز بأسلوبه وتوظيفه للموروث في مقطوعاتِه بشكل مميز.

تعريف الموروث لغة واصطلاحا

لغة: الموروث مستمد من الثلاثي وَرَثَ، وارث المتوفي أي خلَّف له ممتلكاته، والتّراث: ما يخلفه الشخص من ممتلكات لأبنائه وأهله.

اصطلاحًا: لقد تعددت دلالاته ومفاهيمه فمنهم من قال أنه ما تركه السلف من آثار أدبية أو علمية ذات مكانة عالية، وقال عنه جبور عبد النور: ” ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد وعادات وتجارب وخبرات وفنون وعلوم في شعب من الشعوب، وهو جزء أساسي من قوامة الاجتماعي والإنساني والسياسي والتاريخي والخلقي، ويوثق علائِقه بالأجيَال الغابرة التي عملت على تكوين هذا التراث وإغنائِه. “

نظرة شعراء الجاهلية للموروث

استلهم رواد الكلام المنظوم القدامى من موروثهم رؤاهم وأفكارهم وانصَّهروا فيه من خلال مقطوعاتِهم عدوه مصدر غني يجذب الأدباء لينهل منها ويوظفها في نتاجه بغرض تقوية وإثرائه، ومن خلال ذلك أصبح الموروث من الملامح البارزة التي تميز بها الأدب القديم وبواسطتها تم رسم صورة حقيقية لذلك الوقت.

الكلام المنظوم القديم صدى قوي وصورة بارزة للحياة المشرقية بجميع أشكالها، فنرى من خلاله الجانب الاجتماعي والسياسي وكذلك الديني، فهو لسان العقل يتكلم عن أفراحه وأحزانه ومخاوفه وعاداته وغير ذلك، والأدباء الجاهليون لهم الفضل في توظيف هذا الموروث من خلال مقطوعاتِهم وما تضمنت عليه من وثائق وحقائق تاريخية متوارثة.

مصادر الموروث في الشعر الجاهلي

1- الدين: وهو يُعدُّ منبع أساسي في التراث ومصدرًا مهمًا للمَوروث يُمكّننا من توضيح أفكار وثقافة القدماء وعاداتهم وطقوسهم، وهي تدل على العادة،

2- التاريخ: بالرغم من صعوبة تحديد تاريخ أهل المشرق القديم بسبب عدم تدوينه إنما قاموا بروايته شفاهيًا، إلا أن الشعراء استمدوا موروثهم من أفواه رواة الأخبار واعتمدوا على الزخارف في المعابد والتماثيل.

3- الثقافة والأدب: الأدب المشرقي من أثرى آداب الأمم وكان معلمًا بارزًا من معالم الثقافة والبلاغة لديهم وتميز بالقوة والتأثير، والقَبائل الجاهلية اهتموا بأدبهم وثقافاتِهم وتأثروا بالموروث والقصص والكلام المنظوم لأن هذه الأمور هي لغة الأمم ومرآة القلوب.

4- سجع الكهان: والكَهانة علم من علوم أهل المشرق القدامى ويتناول ادعائهم بعلم الغيب مثل الحديث عن ما سيقع في الدنيا مع ذكر الدلائل والأسباب.

5- القصص: كان لأهل المشرق القدامى حكايات وقصص وهي باب ضخم من أدبهم ومعلم من معالم فكرهم، وكانت الحكايات منتشرة بشكل كبير في الجاهلية حيث جاء ذكر هذه المفردة في القرآن الكريم بعدة مواضع، وأهل المشرق القدامى أجادوا في هذا الشكل من الأدب وتركوا لنا العديد من القصص التي تتحدث عن أخبارهم.

6- الرحلات: تميز أهل المشرق القدامى بكثرة ترحالهم وتنقلهم الذي خلَّف في نتاجهم أثر واضح وأورثهم حكم ومواعظ، والأعشى يعد من أبرز الأدباء القدامى الذي اشتهر بتنقله وتجواله والدليل على ذلك قوله:

أَتَيتُ النَجاشِيَّ في أَرضِهِ

وَأَرضَ النَبيطِ وَأَرضَ العَجَم

فَنَجرانَ فَالسَروَ مِن حِميَرٍ

فَأَيَّ مَرامٍ لَهُ لَم أَرُم

وَمِن بَعدِ ذاكَ إِلى حَضرَمَوتَ

فَأَوفَيتُ هَمّي وَحيناً أَهُم

لقد عرف عن الأعشى تعلقه الكبير بالمال وسعى في سبيل جمعه وكدَّ من أجل كنزه قصد مجالس ولاة الأمر لينهل من عطاياهم مقابل مقطوعاتِه وينشد في ذلك:

وَقَد طُفتُ لِلمالِ آفاقَهُ

عُمانَ فَحِمصَ فَأوريشَلِم

ويتحدث عن العادة التي شاب وتعود عليها ويقول:

وَما زِلتُ أَبغي المالَ مُذ أَنا يافِعٌ

وَليداً وَكَهلاً حينَ شِبتُ وَأَمرَدا

وَأَبتَذِلُ العيسَ المَراقيلَ تَغتَلي

مَسافَةَ ما بَينَ النَجيرِ فَصَرخَدا

فَإِن تَسأَلي عَنّي فَيا رُبَّ سائِلٍ

حَفِيٍّ عَنِ الأَعشى بِهِ حَيثُ أَصعَدا

توظيف الموروث في شعر الأعشى

1- الموروث الديني: هو الملهم الأول للموروث الفكري لدى الأعشى وتُعد مقطوعاتِه رمز ديني يتضمن موروثًا غنيًا من معتقدات وأساطير خياليه، ومثال ذلك تناوله حكاية سيدنا نوح والسفينة ويقول:

جزى الله إياساً خير نعمته 

 كما جزى المرء نوحاً بعد ما شابا

في فلكهِ إذ تبداها ليصنعها 

 وظلَّ يجمع ألواحاً وأبواباً

كما تناول قصة قوم عاد ووظفها في مقطوعاتِه وعبر من خلالها عن تفاهة الدنيا وغدرها بالبشر ويقول:

يقول من يبقيهم بنصيحةٍ

هل غيرُ فِعل قبيلةٍ من عادِ

وإذا العشيرةُ أعرضت سُلافُها

جنين من ثغرٍ غير سداد 

فلقد نُحِلُّ به ونرعى رعيهُ

ولقد نَليهِ بقوةٍ وعتاد

2- صورة تمثال المرأة: أورد لنا الأعشى في مقطوعاتِه تمثالًا للأنثى المعبودة الجالبة للخصب والخير وتفنن الأعشى في وصفها وتصويرها، فهي بمثابة الأم السماوية التي قُدست في محاربهم ويشير إلى هذه الصورة من خلال مقطوعاته التي تتحدث عن شوقه لمحبوبته ويتذكر أيام زيارتها لدياره ويقول:

وَقَد أَراها وَسطَ أَترابِها

في الحَيِّ دي البَهجَةِ وَالسامِرِ

كَدُميَةٍ صُوِّرَ مِحرابُها

بِمُذهَبٍ في مَرمَرٍ مائِرِ

أَو بَيضَةٍ في الدِعصِ مَكنونَةٍ

أَو دُرَّةٍ شيفَت لَدى تاجِرِ

يَشفي غَليلَ النَفسِ لاهٍ بِها

حَوراءُ تَسبي نَظَرَ الناظِرِ

3- الخمرة: لهذا المشروب عنصر مقدس ومكانةٍ خاصة عند القدامى يرتبط بشكل وثيق بمعتقداتهم الدينية وطريقة عباداتهم ولقد تميز الأعشى بأدبه الذي يتكلم فيه عن الخمر ويقول ذاكرًا إياه:

أَرَحنا نُباكِرُ جِدَّ الصَبو

حِ قَبلَ النُفوسِ وَحَسّادِها

فَقُمنا وَلَمّا يَصِح ديكُنا

إِلى جَونَةٍ عِندَ حَدّادِها

تَنَخَّلَها مِن بِكارِ القِطافِ

أُزَيرِقُ آمِنُ إِكسادِها

ويتحدث كذلك عن موعد تناولها في الصباح قبل شروق الشمس:

وذات نواف كلن الفصي

ح بكارتها ادمجت ابتكارا

غدوت عليها قُبيل الشرو

ق إما نقالًا وإما اغتمارا

ثم يتحدث واصفًا توهجها وبريقها وقت الصباح وشبهها بقرن الشمس ويقول:

مُشَعشَعَةً كَأَنَّ عَلى قَراها

إِذا ما صَرَّحَت قِطَعاً سَهاما

تَخَيَّرَها أَخو عاناتَ شَهراً

وَرَجّى أَولَها عاماً فَعاما

يُؤَمِّلُ أَن تَكونَ لَهُ ثَراءً

فَأَغلَقَ دونَها وَعَلا سِواما

فَأَعطَينا الوَفاءَ بِها وَكُنّا

نُهينُ لِمِثلِها فينا السَواما

كَأَنَّ شَعاعَ قَرنِ الشَمسِ فيها

إِذا ما فَتَّ عَن فيها الخِتاما

وفي النهاية نستنتج أن الأعشى يتميز في أسلوبه حيث أدرج الموروث داخل مقطوعاته بشكل مميز، ومن المواريث التي استخدمها في أدبه الديني وتمثال المرأة والخمر كما تطرق لحكايات الأساطير القديمة واستفاد من ترحاله للتعرف على موروث الأمم وأخبارهم وتضمينها في نتاجه. 


شارك المقالة: