عمد رواد الكلام إلى نظم الأشعار؛ لكي تعبر عن عشقهم وتعلقهم بوطنهم، فحب البلاد شيء فطري ينشأ في النفس منذ الولادة، والشخص بطبيعته متعلق بالمكان الذي ترعرع فيه فكيف لا يحب وطنه الذي من مياهه ارتوى ومن خيراته جنى وتحت سمائه عاش ونما وحقق أحلامه وطموحاته في أحضانه، وفي هذا المقال سنوضح تعلق المتنبي وعشقه لوطنه من خلال القصائد التي نظمها في هذا الغرض.
نبذة عن حياة المتنبي
اسمه ” أبو الحبيب أحمد بن حسين بن الحسن “ لقب بالمتنبي ولد في الكوفة، وهو من رواد الكلام المنظوم في الفترة العباسية، وكان في ذلك الوقت من أبرز وأهم رواد الأدب، وكان له نمطه الخاص المتميز حيث عرف بأسلوبه المتملق والأفكار العميقة التي لها وقعٌ وأثر في نفس المستمع.
وكان للمتنبي شخصية فريدة وكان دائم الفخر بنفسه والاعتزاز بها في أبياته، وظهرت حكمته في العديد من قصائده، وكان بارعًا في استعمال اللغة وعلى اطلاع واسع بها وبِقواعدها وتميز ببلاغته وفصاحته ويُعَد المُلهم للعديد من رواد الأدب حتى وقتنا هذا.
وتميز المتنبي في نظم الكلام وتناول العديد من الأغراض في أشعاره، وتميز بشعر الحكمة وكذلك المدح والهجاء الذي أكثر منه وكان وقتها تحت رعاية سيف الدولة الحمداني.
صفات شخصية المتنبي
1- يمتلك المتنبي مجموعة من السمات التي ظهرت في أبياته، ومنها صفة المفاخرة بنفسه واعتزازه بها وكان يعتز بإسلامه ومشرقيته، وكثيرًا ما نرى في قصائد أبيات قد خصصها لمدح نفسه.
2- كان يمتلك القدرة الهائلة التي تمكنه من فهم الناس والأشخاص من حوله، وكان على دراية بأحوالهم وصفاتهم.
3- تميز بالبلاغة وفصاحة اللسان، حيث أنه نشأ في البادية وترعرع فيها، ويمتلك إحساس مرهف ويتحدث عن أفكاره بطريقة بسيطة وسلسة.
خصائص شعر المتنبي
1- دام شعر المتنبي إلى هذا الزمن بسبب عدة عوامل من أهمها القيم الجمالية في أدبه؛ لأن قصائده تتضمن حِكم تلائم كل عصر.
2- حرصه الشديد على انتقاء مفردات أبياته بصورة دقيقة ملائمة للغرض والفكرة التي يتحدث عنها، حيث كان يستعمل في المدح مثلاً والرثاء مفردات تُعلي منزلة الممدوح أو المَرثي.
3- كان كثير التفاخر وخصوصًا بنفسه وبأهله وينتقي المفردات التي تبرز نفسه المتعالية، أما في الهجاء فكان يعمد إلى تحقير المهجو والتقليل من شأنه.
4- أسهب في استخدام الصور الفنية التي أظهرت عبقريته وخياله الواسع والكشف عن مكنون نفسه.
5- أكثر من استعمال المحسنات وخصوصًا الطباق وكان يقصد من وراء هذا هو تثبيت الفكرة وتوضيحها للمتلقي، كما أكثر من الجناس والتكرار.
حب الوطن في شعر المتنبي
تعلق المتنبي بوطنه كثيرًا وكان عاشق متيم بهوائه وسمائه، وذكرت أبياته الكثير عن عشق البلاد وكيفية حمايته والذود عنه وتقديم الأرواح فداءً له، وحثّ المتنبي في مقطوعاته على التعلم والتوسع في الاطلاع والثقافة وإن ذلك يدفع بالوطن نحو التطور والتقدم، كما تكلم عن واجب التضحية بالأرواح والأنفس دفاعًا عنه.
وتفرد المتنبي في إنتاج الكثير من المقطوعات التي تتناول عشق الوطن والتعلق به بأسلوب إبداعي ومن أهمها قوله:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني
ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ
مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورٌ ما سُرِرتَ بِهِ
وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
وكان للوطن مكانة عالية في قلب المتنبي، حيث يعبر عن عشقه من خلال العديد من أبياته التي أظهرت مكانة الوطن في قلبه بقوله:
قَد عَلَّمَ البَينُ مِنّا البَينَ أَجفانا
تَدمى وَأَلَّفَ في ذا القَلبِ أَحزانا
أَمَّلتُ ساعَةَ ساروا كَشفَ مِعصَمِها
لِيَلبَثَ الحَيُّ دونَ السَيرِ حَيرانا
وَلَو بَدَت لَأَتاهَتهُم فَحَجَّبَها
صَونٌ عُقولَهُمُ مِن لَحظِها صانا
بِالواخِداتِ وَحاديها وَبي قَمَرٌ
يَظَلُّ مِن وَخدِها في الخِدرِ حَشيانا
ويظهر للمتنبي في قصيدة “وطني أحبك لا بديل” العديد من المفردات الرائعة ذات الوزن الرقيق، ويتحدث في هذه القصيدة عن مدى حبه والذود عنه ومواجهة الأعداء من أجله، ويقول في قصيدته هذه ما يلي:
وطني اُحِبُكَ لابديل
أتريدُ من قولي دليل
سيضلُ حُبك في دمي
لا لن أحيد ولن أميل
سيضلُ ذِكرُكَ في فمي
ووصيتي في كل جيل
حُبُ الوطن ليسَ ادعاء
حُبُ الوطن عملٌ ثقيل
وفي النهاية نستنتج إنّ المتنبي قد تميز في كتابة المقطوعات الشعرية التي أظهرت مدى حبه وتعلقه لوطنه ووعوده له بالمحافظة عليه بكل ما يملك ويقدم روحه فداءً له رخيصة، وتفرد في هذه المقطوعات بأسلوبه وبلاغتِه وفصاحة لسانه وانتقاء المفردات والتراكيب التي توضح فكرته للمتلقي ببساطة وسهولة.