إن المُطّلع على الشعر الجاهلي يدرك العلاقة القوية بين البشر ومكونات البيئة، حتى خلعوا عليها من صفاتهم البشرية، ويظهر في مقطوعاتِهم تعلقهم الشديد بالحيوان وخصوصًا الخيول والناقة، فراحوا يرسمون لنا أجمل اللوحات التي تعبر عن هذا التعلق، كما تحدثوا عن سلوكيات وطبائع هذه الحيوانات، وفي هذا المقال سنتحدث عن سلوك الحيوان وأثره في الشعر الجاهلي.
سلوك الحيوان في الشعر الجاهلي
إن اللوحات التي خطّها لنا الشعر القديم عن طبائع الحيوان تتصف بالحيوية وكثرة المشاهد والأحاسيس وترتكز على الحركة والتعدد في الصور، والمستمع لهذه المقطوعات تتملَّكُة الدهشة لما يلمس من شمولية تصوير دقيق لتلك الطبائع فتشعر بأنك تشاهدها بعينك وهذا يدل على جودة النعت والدقة المتناهية في استعمال الصور.
أجمع العلماء في طبائع الحيوان أنه يتفرد بأساليب لا تعتمد على الغريزة بقدر ارتكازها على الخبرة ويمتلك المشاعر ويثور ويتفاعل مع المثيرات التي تواجهه، وأدرك الشعراء هذه الطبائع والسلوكيات وعمدوا إلى تصويرها والتحدث عنها من خلال أبياتهم.
أبرز الطبائع الحيوانية في الشعر الجاهلي
1- طبع التجمع: الحيوان يشبه البشر بهذا الطبع فهو لا يعيش منفردًا بل في جماعات لها أنظمة وقوانين تنظِمهم وتختلف الحيوانات في طبيعة التجمع، حيث نرى جماعات تجتمع وتعيش وسط أعداد قليلة كالأسود والضباع وهي مفترسة تعتمد في غذائها على الافتراس وهذا لا ينجح مع التجمعات الهائلة.
وهناك حيوانات تعيش في مجموعات كالبقر والحمر الوحشية فهي من آكلات الأعشاب ويجب أن تجتمع في أعداد لتحمي نفسها من الافتراس، فالتجمَّع يمنحها الاتحاد والقوة وعنها يتحدث أحد الشعراء القدامى:
فعن لنا سرب كأنّ نعاجه
عذارى دوار في المُلاء المُذيل
فأدبرن كالجزع المفصل بينه
بجيد معم في العشيرة فحول
تُظهر لنا المقطوعات القديمة نوع من التجمع الذي لا ينفك البقر عنه فهي ملتزمة به في جميع الظروف مستمر حتى بعد زوال الخطر، ومن الصور الرائعة التي تناولت البقر وهي مترابطة رغم غياب الخطر وزواله عنها حيث يقول الشاعر:
والدهر لا يبقى على حدثانه
بقر بناصفة الجواء ركود
ظلت ببلقعةٍ وخبثٍ سملق
فيها يكون مبيتها وترود
ونشاهد أن رواد الكلام المنظوم قد أكثروا من صور تجمع البقر عند حديثهم عن الدمن، وكيف أن البقر استوطنت المكان بعد رحيل الأحباب وعن ذلك يقول الحارث بن حلزة:
لِمَنِ الدِيارُ عَفونَ بِالحَبسِ
آياتُها كَمَهارِقِ الفُرسِ
لا شَيءَ فيها غَيرُ أَصوِرَةٍ
سُفعِ الخُدودِ يَلُحنَ في الشَمسِ
عفا الروض بعدي من سُليمى فضائله
في بطن عنان روضة فأفاكه
تمشيا عين النعاج كأنبيط
توفي الحاج حانت منازله
كما عمدوا رواد الأدب إلى تصوير أسراب الطيور في مقطوعاتِهم وكانت في الغالب ترمز إلى الجيوش وعن ذلك تحدث عنترة بن شداد:
كَأَنَّ السَرايا بَينَ قَوٍّ وَقارَةٍ
عَصائِبُ طَيرٍ يَنتَحَينَ لَمَشرَبِ
وَقَد كُنتُ أَخشى أَن أَموتَ وَلَم تَقُم
قَرائِبُ عَمروٍ وَسطَ نَوحٍ مُسَلِّبِ
شَفى النَفسَ مِنّي أَو دَنا مِن شِفائِها
تَرَدّيهُمُ مِن حالِقٍ مُتَصَوِّبِ
2- الأسرة الحيوانية: نقلت لنا المقطوعات القديمة أروع الصور التي تظهر العلاقة بين الأنثى والذكر للحيوان مجتمعين في ود ومحبة وتوضح بأن هذا التجمع هو يشكل أسرة حيوانية وتتأكد هذه الصورة عند رؤية صغارها تحوم حولها، وخطَّ لنا القدامى أروع اللوحات التي توضح الرابطة وخاصة عند الحمار الوحشي وإناثه، وكيف يحافظ عليهن ويحوطها ويدافع عنها يقول الأعشى:
أَذَلِكَ أَم خَميصُ البَطنِ جَأبٌ
أَطاعَ لَهُ النَواصِفُ وَالكَديدُ
يُقَلِّبُ سَمحَجاً فيها إِباءٌ
عَلى أَن سَوفَ تَأتي ما يَكيدُ
بَقى عَنها المَصيفَ وَصارَ صَعلاً
وَقَد كَثُرَ التَذَكُّرُ وَالقُعودُ
إِذا ما رَدَّ تَضرِبُ مَنخَرَيهِ
وَجَبهَتَهُ كَما ضُرِبَ العَضيدُ
فَتِلكَ إِذا الحُجوزُ أَبى عَلَيهِ
عِطافَ الهَمِّ وَاِختَلَطَ المَريدُ
ومن أجمل الصور التي نقتلها لنا المقطوعات لهذه الأسر الحيوانية صورة أسرة النعام وهي تهتم بالعش والبيض، فهما يترقبان حياة جديدة مليئة بالسعادة تنبع من هذا البيض فتنقل لنا مقطوعات مدى اهتمامها في هذا البيض حيث يقول الشاعر:
ضلًا باقر النفاخ يومها
يحتفلان أصول المغد واللَّصفا
والشرب حتى إذا اخضرت أنوفهم
لا يألون من النوم ما نفقا
راح يطيران معوجين في سرع
ولا يربعان حتى يهبطا أنفا
3- السيطرة: تكون من قبل الذكور حيث يقوم بالسيطرة على إناثِه وحمايتها وخصوصًا في وقت التزاوج من أقرانه والذكور تسيطر على منطقة جغرافية ويستميت في الدفاع عنها، ولقد عبرت الحيوانات عن ملكيتها للمنطقة من خلال أصوات تصدرها معلنة سيطرتها على المكان محذرة باقي الحيوانات من الاقتراب كما يفعل الحمار الوحشي وعنها يقول الشماخ الذبياني:
كَأَنَّ سَحيلَهُ في كُلِّ فَجٍّ
تَغَرُّدُ شارِبٍ ناءٍ فَجوعِ
يَعِنُّ لَهُ بِمِذنَبِ كُلِّ وادٍ
إِذا ما الغَيثُ أَخضَلَ كُلَّ ريعِ
كَقُضبِ النَبعِ مِن نُحُصٍ أَوابٍ
صَوَت مِنهُنَّ أَقراطُ الضُروعِ
4- القيادة: هذه الصفة التي وضعها الله في خلقه ولا تستقيم الحياة إلا بها تواجدت في الحيوانات التي كانت تعيش في نظام معين يضمن لها البقاء، فحين تعيش في جماعات تكثر الصراعات فوجب وجود قائد ينظمها ويضبطها ويخطُ أهدافها.
ونطق الشعراء بهذه الصفة وذكروها في مقطوعاتِهم ونذكر منها تلك التي تحدث عن فحل النوق وكيف ينصاع له كل من في المجموعة وعن ذلك يقول الشاعر:
إذا ما تسربت مجهولة
رجعنا بعد الرسيم النقالة
هداهم مشتمرًا لاحقًا
شديد المطا ترحيبا جلالا
وعن طبع القيادة في سلوك الحمار وسرعته في تنفيذ العقوبة على الأفراد المخالفة في القطيع ورؤية باقي الأفراد ذلك فيكون لها رادعًا وتتجنب اقتراف نفس المخالفة وعن ذلك يقول الشاعر:
تلا سقبةٌ قوداء مشكوكة القرى
متى ما تخالفه عن القصد يعذم
علندى مصكًا قد أضر بعانةٍ
لما شذَّ منها أو عصاه عذوم
وتظهر القيادة في مجموعة أخرى ألا وهي النعام، حيث يظهر الذكر قائدًا لإناثه التي تنصاع له دون تمرد وعن ذلك نظم الأعشى:
وَكَأَنَّها ذو جُدَّةٍ غِبَّ السُرى
أَو قارِحٌ يَتلو نَحائِصَ جُدَّدا
أَو صَعلَةٌ بِالقارَتَينِ تَرَوَّحَت
رَبداءَ تَتَّبِعُ الظَليمَ الأَربَدا
يَتَجارَيانِ وَيَحسَبانِ إِضاعَةً
مُكثَ العِشاءِ وَإِن يُغيما يَفقِدا
طَوراً تَكونُ أَمامَهُ فَتَفوتُهُ
وَيَفوتُها طَوراً إِذا ما خَوَّدا
وفي النهاية نستنتج إن الشعر القديم يعد موسوعة علمية لنا طياته العديد من طبائع الحيوان، حيث نقلها للمستمع بصور دقيقة يشعر المتلقي أنه يرى هذه المشاهد بأم عينه، فقد توجهوا إلى تصويرها في جماعات ووصف طبائعها مثل القيادة والسيطرة فيها وغيرها الكثير.