فن المناظرة في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


ظهر في قصائد أهل الشعر في مختلف العصور ما يعرف بالمناظرات؛ وذلك نتيجة للأحداث السياسية والعصبية التي كانت منتشرة في جميع العصور، وكان لكل قبيلة شعرائها الذين يدفعون عنها، وبرز هذا التميز الأدبي في ذاك الوقت وفي هذا المقال سنوضح مفهوم المناظرات وما يتعلق به في تلك الفترة.

مفهوم المناظرات الأدبية في العصر العباسي

يقصد بالمناظرة بأنها تقع بين طرفين أو مجموعة تدافع فيها كل مجموعة ضد الأخرى ويعمل على إنقاذ قول الطرف الأول، حيث برز في قصائد أهل الشعر مناظرات تتعلق بالسياسة ظهرت بين الفِئات، فزادت في زمن العباسيين وكانت من أبرز أشكال المناظرات.

أسباب ظهور المناظرات في العصر العباسي

هناك الكثير من الأمور التي أدت لتطور المناظرات الشعرية في هذا العصر ومنها:

1- ظهرت الكثير من المعاهد النحوية وتطورت الحركة الأدبية بشكل ملموس وأصبح الشعراء ينظمون المجالس الأدبية فأدى ذلك إلى زيادة الصراع الفكري.

2- حدَّث بعض الأدباء والمفكرين ثقافتهم الفلسفية وساعدوا بازدياد العقلانية في الفكر والمنطق.

3- انتشرت المناظرات بين عدة طوائف منها المعتكفين والمتحدثين والمسلمين وكذلك أصحاب الملل.

4- كانوا ولاة الأمر يحثون على هذا الشكل الأدبي وأجزَلوا العطايا على المناظرين من الشعراء والأدباء.

خصائص المناظرات في العصر العباسي

السمات التي تميزت بها المناظرات في الفترة العباسية ساعدت على توسعها ومنها ما يلي:

1- ازدهار وبلوغ الحركة العلمية في ذلك الوقت.

2- كان الخلفاء يهتمون بأماكن المناظرات اهتمامًا ملحوظًا.

3- تعددت أغراض المناظرات وكان يضم المواضيع السياسية والأدب وكذلك النحوية وغيرها الكثير، فازدهر وكان الناس مهتمين بها وكانوا يرتادون أماكن المناظرات بشكل كبير.

4- بقيَّ الشعر يضم أشكال المناظرات فكان له تأثير واضح على مسامع المتلقين؛ وذلك بسبب القوافي الغنائية فتجعل المناظرة أكثر إثارة.

أنواع المجالس بالمناظرات الأدبية في العصر العباسي

1- المجالس الخاصة: وكانت تسمى بالمجالس غير الرسمية ويتم دعوة الحكام العباسيين إليها.

2- مجالس المقابلات: فهي تنشأ من أجل المتلقين فتقام في البساتين أو بلاط ولاة الأمر أو الأسواق وغبرها من الأماكن.

3- المجالس الدينية: هي التي تتعلق بالوعظ والتوجيه ويتواجد فيها أصحاب الفقه ورجال الدين وبعض ولاة الأمر ليحثوا على مناظرات الوعظ ومنهم هارون الرشيد.

أنواع المناظرات في العصر العباسي

1- المناظرات الدينية: هي التي تقام حول العقائد الإسلامية أو غيرها من الديانات السماوية، وهي متعددة ذات أهمية للجمهور؛ لأنها تمس عقائدهم بطريقة مباشرة، وتتناقض مع الأحكام السياسية، مثل حادثة الإمامة التي وقعت بين الخوارج وأهل السنة.

2- المناظرات النحوية: انتشرت في الفترة العباسية المناظرات النحوية، فقد كانت منتشرة بشكل واسع، وكان ولاة الأمر يهتمون بها ذلك لكثرة النقاش في النحو، وبروز معاهد نحوية كثيرة متعددة المذاهب.

وفي هذا المقام سنذكر المناظرة الزنبورية بين سيبويه والكسائي، وكيف تمكن الأخير أن يتغلب على سيبويه وينتصر بالمناظرة النحوية، فقد قام الكسائي بتوجيه سؤال لسيبويه عن جواز الرفع والنصب في قولنا: قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها، فأجاز سيبويه بإمكانية الرفع من غير النصب، إلا أن الكسائي تغلب عليه عندما أحضر فئة من الناس تحكم زورًا على صحة قوله يصح فيها النصب وكذلك يصح الرفع.

3- المناظرات الخيالية: تحدث في خيال المؤلف بين شخصيات غير موجودة، أو بين الحيوان و الجماد، وهذه المناظرات يترك فيها المؤلف العنان لخياله في حوار قضايا جديدة وغير معروفة، مُسبِغًا عليها سمة من التحديث في النمط والفكرة، بالإضافة إلى أنه طريقة له لإظهار ثقافته ومعلوماته.

فهذه المناظرات يكون الفصل فيها قاطعًا من عقل المؤلف ويكون مستعدًا لأية مناقشة يمكن أن تسند الرأي المغاير له، وأن يؤكدها دون أن يكون هناك من يرد عليه، وقد أورد الهاشمي في مؤلفه “جواهر الأدب” أمثلة على هذه المناظرات التي جرت بين السيف والقلم وبين الليل والنهار، وبين الهواء والماء، وبين الجمل والحصان.

نموذج على المناظرات الخيالية في العصر العباسي

” قال القلم : “بسم الله مجريها ومُرْساها، والنهار إذا جَلاّها والليل إذا يغشاها، أما بعد الحمد الله خالق القلم، ومشرفه بالقسَم، وجاعله أول ما خلق، جَمّل الورق بغصنه كما جَمّل الغصن الورق. والصلاة على القائل: جفت الأقلامُ.”

فإن للقلم قصَبُ السباق، والكاتِبُ بسبعة أقلام من طبقات الكتاب في السبع الطباق، جَرَى بالقضاء والقدر، ونَابَ عن اللِّسان فيما نهى وأَمَرَ، وطالما أربى عَلَى البِيض والسُّمْر في ضرابها وطعانها، وقاتل في البعد والصوارم في القُرْبِ ملء أجفانها، وماذا يُشْبِهُ القلم في طاعة ناسه ؟ ومشيه لهم على أمِّ ر اسه ؟

قال السيف : بسم الله الخافض الرافع، وأنزلْنَا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع، أما بعد الحمد الله الذي أنزل آيةَ السيفِ فعظَّمَ بها حرمة الَجْرح وآمن خيفةَ الخيف، والصلاة على الذي نفذَّ بالسيف سطور الطروس، وخدمته الأقلام ماشية على الرءوس، وعلى آله وصحبه الذين أُرْهِفَتْ سيوفهم، وبُنِيَتْ بها على كسر الأعداء حروفهم، فإن السيف عظيم الدولة شديد الصّولة، محا أسطار البلاغة، وأساغ ممنوع الإساغة، من اعتمد على غيره في قهر الأعداء تعب، وكيف لا وفي حَدِّه اَلْحدُّ بين الجدِّ واللِعبِ ؟!

فإن كان القلم شاهداً، فالسيف قاض، وإن اقتربت مجادلته بأمر مستقبل قطعَهُ السيف بفعل ماض، به ظهرَ الدينُ، وهو العُدّة لقمع المعتدين، حَمَلَتْهُ دون القلم يد نبيِّناَ، فَشَرُف بذلك في الأمم شرفاً بيِّناً، الجنة تحت ظِلاله، ولا سيما حين يُسَلُّ فترى وَدْقَ الدم يخرج من خلاله، زُينت بزينة الكواكب سماء غِمدة.

وصدَقَ من قال “السيف أصّدَقُ أنْباءٍ من ضده ” لا يعبثُ به الحاملُ، ولا يتناوله كالقلم بأطراف الأناَمل، ما هو كالقلم المُشَبَّه بقوم عرُوُّا عن لبوسهم، ثم نُكسوا كما قيل على رُءُوسهم، فكأن السيف خُلِق من ماءٍ دافق، أو كوكب راشق مقدراً في السّرْد، فهو الجوهر الفَرْد، لا يُشترى كالقلم بثمن بخس، ولا يبلى كما يبلى القلم بسواد وطمس، كم لقائمه المنتظر، من أثرٍ في عينٍ أو عينٍ في أثر، فهو في جراب القوم قَوامُ الحرب، ولهذا جاء مطبوع الشكل داخل الضرب.

فقال القلم : “أَوَمَنْ يُنَشَّأُ في الحلية وهو في الخصام غيرُ مُبيِن، يُفاخرُ وهو القائمُ عن الشِمال، وأنا الجالس على اليمين؟! أنا المخصوصُ بالرأي وأنت المخصوص بالصَّدَى، أنا آلة الحياة وأنت آلة الردى، ما لِنْتُ إلا بعد دخول السعير، وما حُدّدت إلا عن ذنبٍ كبير، أنت تنفع في العمر ساعة، وأنا أُفني العُمْرَ في الطاعة، أنت للرَّهَب، وأنا للرَّغَب، وإذا كان بَصَرُك حديداً فبصري ماءُ ذهب، أين تقليدُكَ من اجتهادي، وأين نجاسة دمك من تطهير مِدادي ؟

قال السيف : “أمثلك يُعَيِّرُ مثلي بالدماء؟! فطالما أمرتُ بعض فراخي ـ وهي السكين ـ فأصبحت من النفاثات في العقد يا مسكين، فأخلَتْ من الحياة جُثمانك، وشقّت أنفك وقطعت لسانك، ويلك ! إن كنت للديوان فحاسِبٌ مهموم , أو للإنشاء فخادمٌ لمخدوم، أو للتبليغ فساحر مذموم، أو للفقيه فناقص في المعلوم.

أو للشاعر فسائل محروم، أو للشاهد فخائف مسموم، أو للمعلم فللحيّ القيُّوم أمَّا أنا فلي الوجه الأزهر والحلية والجوهر والهيبة إذ أُشْهَر , والصعود على المنبر. ثم إني مملوك كمالك، فإنك كناسك، أسلك الطريق واقطع العلائق.

فقال القلم : “أما أنا فأبن ماءِ السماءِ , وأليف الغدير وحليف الهواء، أما أنت فابن النار والدخان وناثرُ الأعمار وخَوَّان الإخوان تفصل ما لا يُفصل وتقطعُ ما أمر الله به أن يُوصَل، لا جرم أن صَعَّرَ السيف خده وصقل قفاه , وسُقيِ ماءً حميماً فَقَطّع مِِعَاه، يا غُرَاب البين , ويا عُدَّة الحْينِ، ويا مُعْتَلّ العين، ويا ذا الوجهين، كم أفنيت وأعدمت ؟ وأرملْتَ وأيْتَمْتُ ؟”

وفي النهاية نستنتج أن المناظرات تطورت في الفترة العباسية وكانت مواكبة لمجريات العصر في ذلك الوقت، وكانت تدور بين الأدباء بأسلوب شيق تجذب المتلقين لسماعها، ولقد شغف ولاة الأمر في هذا النوع النثري وشجعوا عليه.


شارك المقالة: