يُعتبر المؤلف والكاتب جوان جيمارانس روزا وهو من مواليد دولة البرازيل من أشهر الكُتاب الذي تميز بإتقانه للعديد من اللغات العالمية، كما تم وصفه أنه أفضل كاتب ظهر في على مستوى الأمريكيتين في القرن التاسع عشر، ومن أبرز القصص التي اشتهر بها هي قصة الشاطئ الثالث للنهر.
قصة الشاطئ الثالث للنهر
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول عائلة مكونة من أب وأم وولدين وفتاة، كان الأب فيها من الرجال المسالمين، وكانت الأم فيها هي من تمسك زمام أمور البيت وتتحكم في كل أمور المنزل، وفي أحد الأيام قرر الأب أن يطلب من أحد النجارين أن يصنع له قارب من خشب يعرف باسم خشب الميموزا، بحيث يكون ذلك القارب لا يتسع إلا إلى شخص واحد، كانت الأم تزعج من ذلك القرار كن الأب لم يدلي بأي كلمه وأصر على الحصول على قارب متين يصمد إلى ما يقارب عشرون أو ثلاثون عاماً، فقد كان منزله قريب من شرفة النهر وهو بحاجة لمثلك ذلك الشيء.
كان النهر في تلك المنطقة عميق لدرجة كبيرة كما أنه هادئ وعريض إلى درجة أنه لا يمكن لشخص يقف على طرفه يتمكن من رؤية الطرف الآخر، وفي أحد الأيام حصل الأب على القارب وهنا أول ما بدأ به هو أن تناول قبعة رأسه وأشار إلى أنه يريد الذهاب في رحلة به، لكن هنا لم يأخذ معه أي نوع من أنواع الطعام، وكما أشار إلى ابنه الأكبر أن يرافقه في الرحلة، كان الولد يخاف من ردة فعل والدته لكن رغبته الزائدة جعلته يتقدم باتجاه والده بكل بهجة وسرور لكنه تراجع في آخر لحظة، بينما شعور الأم في تلك اللحظة كانت ترغب في أن زوجها يذهب دون عودة على الاطلاق.
وحين ودعهم والدهم بدأ الابن الأكبر يسرد أحداث القصة، إذ أشار إلى أنه توارى خلف أحد الشجرات وأخذ يراقب والده منذ بدأ بجدف القارب الذي كان على شكل تمساح وحاول أن يتوجه بعيداً، وفي تلك الأثناء قال الابن: أنه في الحقيقة كان والدي يجدف بالقارب هنا وهناك، لكنه في الحقيقة لم يتحرك من مكانه، بل يموج في عرض النهر يميناً وشمالاً، وهنا اجتمع الأقارب والجيران للنظر في هذا الأمر الغريب، ولماذا والده لا يتحرك إلى الأمام أو إلى الخلف، فقد اعتقد البعض أنه أصيب بالجنون أو أنه متردد في الابتعاد عن العائلة خوفاً عليهم.
كانت والدتي في تلك اللحظة خجولة ولم تتحدث سوى القليل، إذ تصرفت برزانة بالغة أمام الموجودين، وبالتالي اعتقد الجميع أبي قد أصيب بالجنون حقاً، لكن هناك قليل من الجموع لمحوا أنه من الممكن أن يكون والدي ربما يفي بنذر كان قد نذره للرب أو لأحد القديسين، أو أنه ربما أصيب بمرض الجذام.
وفي أحد الأيام روى المسافرون والناس الذين يقطنون بالقرب من الشاطئ على كلا الجانبين أن والدي لم يضع رجله أبداً على البر لا في نهار ولا في ليل، فقط كان يموج هنا وهناك في النهر متوحدًا هائمًا دون هدف محدد وكأنه شخص منبوذ، واتفق أقاربنا وأمي على أنه لا يوجد معه طعام، وعلى هذا فإنه إما أن يغادر النهر ويرحل بعيدًا إلى مكان ما، أو أنه يشعر بالندم ويرجع إلى المنزل.
وفي إحدى الليالي عزم الوالد على الرحيل إلى مكان بعيد، إذ بعد أن لاحظوا اختفائه سرعان ما أوقدوا نار وأخذوا في المناداة عليه، وهنا قال الابن: أشعر بالحزن وأن والدي بحاجة إلى أن أفعل شيئًا أكثر من ذلك، وفي اليوم التالي نزل الابن إلى الشاطئ وهو يحمل معه رغيف من الخبز وقليل من الموز، وبعض قوالب السكر الخام الأسمر، وهنا ينتظر والده بكل لهفة ساعة طويلة، وفي لحظة ما شاهدت القارب في مكان بعيدًا جدًا، إذ كان وحيدًا لا تكاد تراه العين فوق السطح الهادئ للنهر، كان والده يجلس في قاع القارب، وهنا قال الابن: لقد رآني لكنه لماذا لم يجذف بالقارب نحوي، مع أني أظهرت أنني أحضرت الطعام له.
وهنا وضع الابن الطعام في مكان آمن بعيداً عن الحيوانات والمطر في جوف شجرة وعاد إلى المنزل، كان الأم تعلم بكل ما يقوم بفعله ابنها إذ كانت تضع له الكثير من الطعام هنا وهناك حتى يسهل عليه أخذه لوالده، لقد كانت لديها الكثير من المشاعر التي تكنها لوالده، لكنها على الدوام كانت تظهر أمام الجميع بعكس تلك المشاعر، وفي ذلك الوقت طلبت الأم من أخيها أن يقوم بمساعدتها في الأرض كما أرسلت إلى أحد المدرسين؛ حتى يدرس أبنائها في المنزل ويتابع معهم دراستهم، وفي أحد الأيام نزل القسيس إلى شاطئ النهر حتى يطرد الشياطين الذي كان يعتقد أنها تمكنت من والدي.
وهنا بدأ يفكر الابن أنه ينبغي على والده أن يكف عن ذلك العناد وأن يعود إلى المنزل، وحاول بشتى الطرق أن يعيده لكن دون جدوى من ذلك، وقد مرت الأيام والشهور والسنين وهو على هذا الحال، وكان الابن يفكر على الدوام أن كيف لأبيه أن يستمر في هذا الهِواء المخيف والمرعب، فبغض النظر عن أن والده على معرفة تامة بهذا المكان بكافة حذافيره إلى أنه مكان يثير الذعر والرعب.
تقدم أحد الشباب في المنطقة وطلب الزواج من ابنة الرجل الهارب، إلا أن الأم اشترطت عليه أن لا يقيم حفل زفاف لأن والدها ليس موجود، وقد بدا هذا الأمر محزن بالنسبة إلى جميع أفراد العائلتين، لكن الشاب وافق على ذلك، وكان قد بقي الولدان والأم الذين بقوا على الدوام في التفكير بالأب وما حصل له وكيف حالته ووضعه الصحي وكيف له أن بقي تحت كل الظروف المناخية التي مرت بالمنطقة، وعلى الرغم من أنهم شعروا بأن الأب لم يُكن لهم أي أهمية إلا أنهم كانوا يكنوا له كل المحبة والاحترام.
ومرت الأيام والسنوات وتغير الزمن بشكل سريع وتفرقت العائلة إذ أصبحت متفرقة فرحلت الابنة وزوجها إلى مكان بعيد، كما رحل الابن الأصغر ليستقر في مدينة بعيدة، وأخيرًا رحلت الأم والتي أصبحت عجوز في ذلك الوقت لتعيش مع أبنتها وبقيت الابن الأكبر وحيداً، فلم يفكر في الزواج أبداً، بل كانت كل أفكاره حياته مركزه في والده، وكيف أنه وهو يطوف لوحده في عرض النهر، إذ كان يعلم أنه بحاجته، على الرغم أنه لم يوحي له بذلك مطلقًا، وكان على الدوام يتساءل لماذا يفعل ما كان يفعله؟.
وعندما طرح الابن الأكبر هذا السؤال على الكثير الناس بإلحاح، كان كل أدلوا به أنهم سمعوا والدهم يخبر من صنع القارب بذلك السر لكن ذلك النجار قد مات بعد أن انتهى من صنع القارب، وبقي الابن الأكبر على هذا الحال إلا أن تغلغل الشيب رأسه، فلم يعد أمامه سوى الأشياء الحزينة يقولها: ماذا كان ذنبي الكبير منذ صغري ووالدي بعيد، وقد كان بدأ يعاني من أعراض الشيخوخة إذ أصابته نوبات متتالية من المرض ومن القلق، كما أصيب بمرض روماتيزم مزمن.
وقد كان الابن الأكبر يشعر بالذنب على الدوام اتجاه والده، وبقي ألم وجروح بداخله مختلفة، وهنا بدأ يفكر في مكمن الخطأ، وفي النهاية حاول أن يذهب إلى جانب النهر ولوح بمنديل حتى يتمكن من لمح والده والاشارة إليه، كان يحاول السيطرة على نفسه في تلك اللحظة، وانتظر قليلاً حتى أن ظهر من بعيد شبح، إذ كان يجلس في مؤخرة القارب، وهنا أخذ في المناداة عليه مراراً وتكراراً، وهنا قال: يا والدي أنت الآن أصبحت رجل عجوز، وقد عرض عليه أن يذهب هو بداله إذا كان مضطر للبقاء في ذلك المكان، وهنا زاد العزم بداخله، وأخذ يردد إذ كنت لم تقبل عرضي، فأنا سوف أقدم عليك بقارب آخر.
وعندما سمع والده هذا الكلام هبّ واقفًا متكئ على مجذافي القارب، ووجه القارب صوب ابنه وأشار بيده إلى أنه قبل العرض، وبشكل مفاجئ ارتجفت داخل أعماقه، ذلك أنه برفع يده وتلويحه للمرة الأولى منذ سنين طويلة مضت، ففزع الابن وأخذ يركض عند رؤيته قادم من عالم آخر.