مظاهر البداوة في الشعر الجاهلي

اقرأ في هذا المقال


الكلام المنظوم موسوعة تاريخية من خلاله نستطيع الكشف عن حالة المجتمع بكل جوانبه، فهو إلى جانب أنه يعبر عن مشاعر قائله إنه موضح لجوانب الحياة وكاشف عن الثوابت والقيم والطبائع، ومعروف أن الجاهلية بدوية الأصل فكان لابد من الاطلاع على طبائعهم من خلال المقطوعات التي تمكن من إيضاح الجوانب والمظاهر البدوية.

البدو في الجاهلية

البدو هم جماعات متنقلة كثيرة الترحال ليحصلوا على الطعام والماء وكان غذائهم من منتجات أنعامهم ولباسهم من أصوافها، ولكل قبيلة رؤسائها الذين يديرونها والجميع يخضع لهم ويطيعونَهم في السلم أو الحرب.

تميز أهل البادية بفصاحتهم والبلاغة حيث ظهر منهم العديد من رواد الكلام المنظوم وكان لكل قبيلة شعرائها الذين يذودون عنها ويدافعون عنها بألسنتهم، ولقد أثرت مظاهر البداوة المحيطة بهم في أشعارهم فكانت تلهب قرائحهم لتصويرها وتناولها في أشعارهم.

مفهوم البداوة لغة واصطلاحا

لغة: جاء مفهومها بمعنى يتعلق بالسبق وهي البدء الزمني، وسكان المدينة يقولون: ” بدَينا ويقصد بها بدأنا،” والبَدْوُ ضد الحضَر وأورد الأزهري كلام عن البداوة: ” والبادية اسم الأرض التي لا حَضر فيها، وإذا خرج الناس من الحضر إلى المراعي في الصحاري قيل: قد بدوا، والاسم: البَدْوُ قلت البادية خلاف الحاضرة والحاضرة القوم الذين يحضرون المياه وينزلون عليها في حمارة القيظ. “ 

وفي المعجم المحيط: ” البدو والباديه والبَاداة والبداوة: خلاف الحضر، وتبدَّى: أقام بها، وتُبادى: تشبه بأهلها، والنسبة: بداويٌّ، وبَدوي، محركة، نادرة، وبدأ القوم بَداً: خرجوا إلى البادية، وقوم بُدى وبُداً: بادون وبدوتا الوادي: جانباه، والبَدا مقصور السلح.”

اصطلاحاً: كلمة البادية توحي بالصحاري والشمس الحارقة والشجاعة والكرم وقد اختلف العلماء على مفهوم البداوة، فمنهم من قال أنها أسلوب معيشة مبني على الترحال الدائم للأفراد بحثاً عن رزقهم، يتمركزون حول مجامع المياه.

والبداوة أساس المجتمعات وكانت أقدم من التمدن، فالأفراد يبدؤون حياتهم بالسعي طلباً لرِزق ويستقرون في مراكز يتوفر فيها سبل العيش ومن بعدها يبدؤون بالتحضر ويُعرف ابن خلدون البدو:

” إن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي مع الفَلح والقيام على الأنعام، وأنهم مُقتصرون على الضروري في الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد، ومقصرّون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي.” 

مظاهر البداوة في الشعر الجاهلي

للبداوة مظاهر ميزتها عن غيرها حيث برزت في الشعر القديم ومنها صفة مساعدة الملهوف والمستجير وإكرام الضيف، ومثال عليه ما قال الأسود النهشلي في إكرام الضيف تنفيذاً لوصية والده: 

وإني لأُقري الضيف وصى به أبي

وجارُ أبي تَيْحان ظمآنُ جَائعُ

فقولا لتيجان بن عامرة استها

أَمُجر فلاقي الغيَّ أم أنت نازعُ

ولو أن تِيحان بن بلج أطاعني

لآ رشدّتُه إن الأُمور مطالِعُ

ونرى كذلك ظاهرة الكرم تتجلى في أبيات عروة بن الورد ويَقول:

سَلى الطَّارق المُعْترّ يا أُمَّ مالك

إذا ما أتاني بين قدري وجزري 

فيسفرُ وجهي إنه أول القِرى

وأبدلُ معروفي له دون مُنكري

أما الكرم عند الحارث بن حلزة يقوم ببذل الشخص كل ما لديه للآخرين، لأنه لا يعلم ما سيحصل بماله بعد موته وكيف سيتقاسمونه الورثة حيث يفضل أن يقدمه لضَيفة ويكرمه بأجود ما لديه، ولذلك نراه يطلب من ابنه أن يحلب الأنعام ويقدمها لضيفه:

قُلت لعُمر وحين أرسلته

وقد حبا  من دونه عالِجُ

لا تكسع الشَّولَ بأغبارها 

إنَّك لا تدري من الناتج

واحلبُ لا ضيافك ألبانها

فإن شرّ اللبن الوالجُ

إلى أن يقول:

بينا الفتى يسعى ويسعى له

تيح له من أمره ضالِجُ

يترك ما رقّحَ من عيشه

يَعيثُ فيه همجٌ هامجُ

ونرى الحطيئة يصور لنا نمط آخر للكرم فهو يخرج من بيته ليصطاد لإكرام ضيفه:

فرَوّى قليلاً ثم أحجَمَ بُرهةٌ

وإن هو لم يذبح فتاه فقد همّا

وقال هُيا، عنت على البُعد عانةٌ

قد انتظمت من خلف مِسحِلها نظما

عِطاشا تريدُ فانساب نحوها

على أنه منها إلى دمها أظمَا

ولا يتوقف الكرم على تقديم أفضل الطعام إنما يقوم باستقبال ضيفه بأجمل لقاء والبشاشة تعلو وجهه وعنه يقول الأعشى:

فقال له: أهلاً وسهلاً ومرحباً

أرى رحماً قد وافقتها صلاتُها

ومن المظاهر البدوية التي وردت في أشعار رواد الشعر في القدم والتي تعد من أهمها وهي الشجاعة والإقدام، فالبدوي كثير المخاطرة وهذا دليل على شجاعته وعن يقول ابن طفيل:

إذا نعى الحرب نَاعوها بدت لهم

أبناء تُزجي كُلَّ مُخترج

عليهم البيضُ والأبدان سابغة

يُقحمُون كأن القوم رهج 

وقوله أيضاً مصوراً شجاعته وسط الرمال:

إني وإن كنتُ ابن سيد عامرٍ

وفارسها المندوب في كل موكب 

ولكنني أحمي حماها وأتقي

أذاها وأرمي من رماها بمنكب

كذلك نرى ذو الإصبع العدواني يحث ابنه ليكون شجاعاً مقدماً يهجم على عدوه كما يهجم الأسد على فريسته ويطلب منه مواجهة المصائب بصبر وجلد ويقول في ذلك:

وإذا القــوم تــخــاطــرت

يـومـا وأرعدت الخـصـيـلا

فــاهــصــر كــهــصـر الليـث خـضّـب

 من فريسته التليلا

وانـَزل الى الهيجا إذا

أبـطـال كرهوا النزول

وإذا دعــيـت إلى المهــم 

فــكــن لفـادحـه حـمـولا

ولم يفضل البدوي الحرب فقد كان رافضاً للحرب محباً للسلام، ولا يتقدم للحرب إلا إذا اضطر لذلك ومن ذلك قول عنترة:

فإن تك حربُكم أمس عوانا

فإني لم أكن ممن جَناها

وقيل أنه سبب في إثارتها في بعض الأحيان ومثال عليها قول قيس بن الخطيم:

وكنت امرأً ابعثُ الحرب ظالماً

فلما أبوا أشعلتها في كل جانبز

كما تمكن رواد الكلام من إنهاء الكثير من الحروب والنزاعات من خلال مقطوعاتهم التي كان لها وقع وأثر في نفوس سامعيها، ومثال على ذلك قول أبو خراش:

فإن تزعُمي أنِي جَبُنتُ فإني

أَفرُّ ورامي مرَّة كُلَّ مقاتِلاً

وأنجو إذا ما خِفتُ بعض المهالك

لن ننسى أهم المظاهر التي كانت منتشرة في المجتمع البدوي والتي تناولها رواد الشعر كثيراً ألا وهي الإجارة حيث كان للإجارة قوانيين، وهذا يدل على أهميتها لدى أهل البادية ومثال على ذلك وصية الأعشى لابنه بأن يساعد المستجير:

وكن من وراء الجار حصناً مُمّعا

وأوقد شهاباً يسفح الوجه حاميا

وكان البدوي محافظاً على عرض جاره يصونه وعن ذلك يتحدث الأعشى موصياً ابنه:

ولا تقربن جارةً إن سِرّها

عليك حرامٌ فَانكحن أو تأبّدا

ومن المظاهر السلبية التي شاعت لدى البدو مسألة الثأر فكانوا يستميتون من أجل الثأر لقتلاهم، ومن أجل أن لا يذهب دمه هدراً كما يعتقدون وعن ذلك تحدث تأبط شراً:

إن بالشعب الذي دون سلع

لقتيلا دمه ما يُطل

وراء عقدته ما تحل

ومن العادات التي كانت منتشرة آنذاك هي البكاء والنحيب على الميت وشق الجيوب ونرى طرفة بن العبد يطلب من ابنة أخيه أن تبكيه عند موته:

فإن متُّ فانعيني بما أنا أهله

وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد

ولا تجعليني كا مرئ ليس همه

كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي

كذلك نذكر النفي والطرد من القبيلة وهذه ظاهرة منتشرة في البادية وقد يكون نتيجة لفعل مشين قام به الفرد وتضرر بسببه القبيلة، وقد يطرد الفرد لعلة فيه مثل ما جرى مع عنترة بن شداد وقال عن ذلك:

إذا فاض دمعي واستهل على خدي

وجاذبني شوقي إلى العلم السعدي

أذكر قومي ظلمهم لي وبغيهم

وقلِة إنصافي على القُرب والبُعد

بنيت لهم بالسيف مجداً مُشيداً

فلما تناهى مجدُهُم هدموا مجدي

يعيبون لوني بالسواد وإنما

فِعالهم بالخبث أسودُ من جلدي

وفي النهاية نستنتج إن الشعر كان موسوعة يصور مظاهر البداوة في العهد الجاهلي كما تحدث عن صفات أهل البادية وسطع نجم العديد من أهل الشعر من الذين تناولوا هذه المظاهر في أبياتهم مثل الأعشى وعنترة وطرفة بن العبد وغيرهم.


شارك المقالة: