اقرأ في هذا المقال
لقد تطور الأدب في العصر الأندلسي تطورًا هائلًا في مختلف جوانبه المتعددة، ومن المعروف أن أشكال وصور الأدب الأندلسي في عهد الطوائف والمرابطين كانت شبه مكتملة، وتم وصولها مرتبة عالية من التطور الكبير الذي من المستحيل بعده أن تمرّ بهبوط أو جمود أو تغيير.
مظاهر التطور الأدبي في العصر الأندلسي
لقد كان هناك اتساع للمدى من ناحية المكان لهذا الأدب في العصر الأندلسي وكذلك تعددت وتنوعت أسماء الأدباء الذين يلفتون انتباه المتعلم الأدبي ويستوقفونه، وكما هو معروف أن مدينة قرطبة كانت المركز الرئيسي التي ينجذب إليها الأدباء من جميع الانحاء، حيث تكاثرت فيها المعاهد والمراكز الأدبية، وكثر فيها المادحين والممدوحين وحماة الأدب والمهتمين فيه، وكما كثرت فيها دواوين الإنشاء، وأصبح هناك العديد من الوزراء الكتاب الشعراء، وظهرت المنافسة بينهم أشد وأقوى.
وهنا يجب أن نحتاط في هذا الأمر من الخلط بين النوع والكم في حال الأدب، فإذا كان هناك زيادة كبيرة في كميته ولم يقابلها اطراد في جودة النوع. استبعدنا قبل ذلك أن تكون الجودة ناتجة عن التشجيع الرسمي فقط، بل كان التطور الطبيعي للأدب، قد تم نتيجة الظروف المحلية والأسباب الخارجية على نمط ليس بحاجة إلا لقليل من التشجيع، فالحركة الطبيعية في التطور هي التي تساعدنا في تقدير ما تبقى من أدب ذلك العصر، ويجب علينا إبراز معالم الجِدَّة أو التغير في دراسة ذلك التطور.
تطور الأدب الأندلسي في الشكل بين العرب والمحدثين
من المفروض أن نذكر أنه كان هناك محاولات عديدة لتوضيح حال المذهب الأدبي بشكله العام بين ما سماه الأندلسيون أسلوب المحدثين وما سموه أسلوب العرب، وتوضيح كيف أن الصراع والتنافس اشتد بين كلا المذهبين، وخصوصًا بعد أن كثر طلاب العلم القالي في الأندلس، وكان هناك نتائج لهذا التنافس أن شهد العصر الأندلسي قوة للمذهب العربي في مبنى الشعر وموضوعه.
ويعتمد المذهب العربي من حيث البناء على قاعدتين أساسيتين لهما صلة بموسيقاه بشكل عام وهما: الجزالة وقوة الألفاظ وشِدّة التدفق؛ ونفهم من ذلك حديث ابن بسام إن أغلب أهل عصره وأغلب شعراء وقته يذهبون إلى طريقة ابن هانيء وعلى نمط قالبه يضربون من حيث المبني الركنين الأساسين المذكورين من جزالة وتدفق. إلا إنه كان معروف عن طريقة ابن هانيء أنها طريقة مشمولة بجلبة لفظية عامة حتى أن المعري شبّه شعره برحى تطحن قرونا.
ولقد استطاع العرب بطريقتهم أن يمسحوا أكثر ما وجدناه من الشعر الأندلسي من خشونة في التركيب الناتجة عن عدم تخليص التعبير من التقليد المصطنع، كما أنها أعطت الشعر الحديث خشونة الموضوع البدوي، وهذا يقود إلى عدم التناسب مع طبيعة المنحى الحضاري الذي كانت مدينة الأندلس آخذة بأسبابه، ولكن الشعر في هذا المجال كان يمثل جانبا من الثورة على الإغراق في الحضارة، فإذا لم نعتبر ذلك ثورة صريحة اعتبرنها تكاملا لا يمكن الاستغناء عنه من أجل خلق التعادل بين منحيين مختلفين.
ونستطيع هنا أن نعيد هذا الاتجاه إلى طبيعة الدراسات التي توجهت إليها مدرسة القالي، وهذا يظهر بوضوح من خلال مراجعة الكتب التي اهتمت بشكل كبير بتدريسها وشرحها وتفسيرها للتلاميذ، وجميعها من النوع الذي يقدم نماذج من طريقة العرب أو نماذج تشبهها.
ولقد خضع الشعر ذاته لقوة مؤثر خارجي جديد يتمثل في ديوان المتنبي ويتمثل بشعر المعري، وهما الشاعران اللذان توجها إلى المعين البدوي ومزجا ما تعلما منه بالتجربة العميقة والآراء الفلسفية، فكان كل ما حققاه في هذا الشعر تجديدا من داخل المحافظة على الشكل القديم. وكان لهذين الأديبين مكانة مرموقة في نفوس الأندلسيين في هذا العصر. ومن يقرأ الذخيرة لابن بسام باستطاعته أن يشاهد نطاق اعتماد الشعراء الأندلسيين في توليد المعاني على هذين الشاعرين، وأما معارضة قصائدهما فهذا شيء واضح للعيان.
ولقد عُرف عن المعارضة التي يقودها المتنبي بأنها أصبحت معياراً للجودة والكفاءة عند الأندلسيين منذ زمن ابن شهيد وبقيت على هذا الحال حتى عهود طويلة، ويذكر في ذلك أن ابن شرف قد طلب في مجلس المأمون من ابن ذي النون أن يشير المأمون إلى أي قصيدة يريدها من شعر أبي الطيب المتنبي ليعارضه بقصيدة “تنسي اسمه وتعفي رسمه، فصعب على ابن ذي النون جوابه، علما بضيق جنابه، وخوفًا من فضيحته وانتشا به” ولكنه بعد إصرار طلب إليه أن يعارض: “لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي”.
ومن أكثر الشعراء الأندلسيين سيرًا على طريقة المتنبي في السياق والبناء مع استقلال غير قليل في العناصر الذاتية هو عبد المجيد ابن عبدون، الذي عاش في رعاية المتوكل صاحب بطليموس، وعندما انتهى عهد الطوائف قضى ما تبقى من حياته ببلده يابرة، فمن شعره الذي كان على نفس طريقة أبي الطيب:
هيهات لا أبتغي منكم هوى بهوى … حسبي أكون محبا غير محبوب
فما أراح لذكرى غير عالية … ولا ألذ بحب دون تعذيب
ولا أصالح أيامي على دخن … ليس النفاق إلى خلقي بمنسوب
يا دهر أن توسع الأحرار مظلمة … فاستثني إن غيلي غير مقروب
ولا تخل أنني ألقاك منفردا … إن القناعة جيش غير مغلوب
فلقد كانت تعتمد على القوة، ويستمر بعد فصل الكلام بإرسال الحكمة والمثل، ولكنه قد يخالف المتنبي في فلسفته إذ يقول: “ولا ألذ بحب دون تعذيب “، كما يختلف عن المتنبي ويبتعد عن طريقه في قوله: “إن القناعة جيش غير مغلوب”، ولكن النمط العام في القصيدة فيه اقتداء شديد لأبي الطيب المتنبي.
ومن أبياته التي يعيد فيها بعض التدفق في أسلوب المتنبي قوله:
فما أبقوا ولا هموا ببقيا … ونقل الطبع ليس بمستطاع
فلو سقت السماء الشري أريا … لما احلولت مراعيه لراع
بدهر ضاعت الأحساب فيه … ضياع الرأي في السر المذاع
فبعتهم بتاتا لا بثنيا … ولا شرط ولا درك ارتجاع
ولم أجعل قرابي غير بيتي … وحسبي ما تقدم من قراع
وهنا نرى الفرق واضح بينه وبين أبي الطيب المتنبي، ليس في النغمة العامة فقط، وإنما أيضًا في أن فلسفته كانت تقوم على قوة نفسية يستمدها من الزهد في الناس ومن القناعة وليس هذا من مذهب المتنبي.
وإذا كان ابن عبدون يقلد مبنى المتنبي وحده دون فلسفته فإن ابن وهبون كان يقلد الاثنين معًا في مثل قوله:
وإني لفي دهر قرائس أسده … سدى عبثت فيها نيوب كلاب
أتخفى على الأيام غر مناقبي … وقد بز شأوي شأو كل نقاب
ويركبني رسم الخمول وقد غدت … خصال العلا والمجد طوع ركابي
سأرقى بهماتي قصارى مراتبي … وإن كان أدناها يطيل طلابي
لتعلم أطراف الأسنة أنني … كفيل لها عند الصدا بشراب
وتشهد أطراف اليراعات أنني … بهن مصيب فصل كل خطاب
وليس نديمي غير أبيض صارم … وليس سميري غير شخص كتابي
مضمخة لا بالمخلوق أناملي … مزعفرة بابعير حرابي
ولكن بنفح بخجل الروض زاهرا … ولكن بدعس في كلى ورقاب
ومن لم يخضب رمحه في عداته … تساوت به في الحي ذات خضاب
ومن لم يحل السيف من بهم العدا … تحلى بخزي في الحياة وعاب
إذا ورق الفولاذ هز تساقطت … ثمار حتوف أو ثمار رقاب
ومن يتخذ غير الحسام مخالبا … فما هو إلا وارد بسراب
ومن غره من ذا الأنام تبسم … فبالعقل قد أضحى أحق مصاب
وفي النهاية نستنتج أن الأدب في العصر الأندلسي قد تطور تطورًا واضحًا في مختلف جوانبه المتعددة، من حيث أشكال وصور الأدب الأندلسي في عهد الطوائف والمرابطين فقد كانت شبه مكتملة.