التجذير في النظام الإنتاجي عند كارل ماركس

اقرأ في هذا المقال


التجذير في النظام الإنتاجي عند كارل ماركس:

تعود الكتابات الأولى لكارل ماركس إلى سنوات 1840، وقد توفي عام خلال هذه المدة كثرت جداً كتاباته كمؤرخ وفيلسوف واقتصادي وعالم اجتماع وكداعٍ للاشتراكية، وأصبحت أعماله موضوعاً لكمّ ضخم من التأويلات، والرغبة في إيجاز مقترحاته بدقة هي مخاطرة خاسرة، حتى لو اكتفينا فقط بطروحاته عن الطبقة الاجتماعية، فنستعين بريمون آرون مثلاً للاستيضاح، ومن أجل عرض أكثر تفصيلاً.

أنماط الإنتاج والبنية التحتية عند كارل ماركس:

نستطيع أن نلاحظ تجاوراً فكرياً إلى حد ما واضحاً بين ماركس والفيزيوقراطيين، إن نقطة الانطلاق في التحليل بالنسبة لماركس هي البنية التحتية، أي القاعدة الاقتصادية وقوى وعلاقات الإنتاج، مثلما كانت هذه القاعدة الاقتصادية بالنسبة للفيزيوقراطيين في أساس الطبقات التي قاموا بتمييزها.

اعتقد ماركس بأنه يميز في التاريخ البشري بين أربعة أنماط إنتاج مختلفة، أربعة نماذج من البنية التحتية، ثلاثة أنماط إنتاج هي القديم والإقطاعي والبورجوازي التي تتوالى في تاريخ الغرب، ثم نمط الإنتاج الآسيوي.

يتسم النمط الإنتاجي القديم بالعبودية، والإقطاعية بالقنانة، ونمط الإنتاج البورجوازي يتصف بالعمل المأجور، يترجم هذا بتعابير شديدة البساطة، فيعود إلى تعارض بين طبقتين، العبيد ومالكي العبيد، أقنان وأسياد إقطاعيون، وأخيراً مأجورون، بروليتاريون ومستخدمون رأسماليون، فالطبقة تعود إلى مصالح متباعدة في تنظيم الإنتاج وإلى الإمكانية المعطاة للواحدة للاستفادة من عمل الأخرى.

أما نمط الإنتاج الآسيوي فقليلاً ما أشار إليه ماركس، رغم ما أثار هذا المفهوم من اهتمام شديد فيما بعد، يعود هذا النمط بشكل أساسي كما يبدو، إلى تبعية كل العاملين للدولة، أي لطبقة بيروقراطية تنظيم النشاط الجماعي وتستفيد منه، وقد صيغ هذا النمط بالأحرى لتحليل المجتمعات حيث كان تنظيم الري ذا أهمية بالغة، إلا أن التأويلات الأكثر حداثة طبقته بالطبع على المجتمعات الجماعية المجتمعات الشيوعية في عصرنا هذا.

إن التطور التاريخي، أي الانتقال من نمط إنتاج إلى نمط آخر، يجد جذوره في هذا التعارض بين الطبقات، فالتعديلات القابلة للظهور والقادرة على تحسين قدرات الإنتاج سوف تكون محمولة من قبل طبقة جديدة في حالة تكوّن، ولكي تنجح هذه عليها أن تواجه الطبقة التي كانت سابقاً متحكمة، وهكذا ستناضل البرجوازية الناشئة، في إطار نمط الإنتاج الإقطاعي، ضد الإقطاعيين كي تقيم نظام إنتاج جديداً مبنياً على العمل المأجور مما يلتقي مع تفسيرات مؤرخي الثورة ولكن في إطار نظري تفسيري أكثر رحابة.

وعندما ينشأ نمط الإنتاج الرأسمالي ستحقق البورجوازية الأرباح، كطبقة جديدة مسيطرة، من حيث موقعها بالنسبة للبروليتاريا، غير أنه في هذه الحالة الخاصة بنمط الإنتاج الرأسمالي، لا يعتبر ماركس أن هناك طبقة جديدة هي قيد التكوين، ستناضل لإقامة نظام جديد؛ لأن هذا الدور بحسب رأيه، ستستأثر به البروليتاريا نفسها.

ماركس الملاحظ وماركس صانع النماذج:

لم يستخدم ماركس في كتاباته التاريخية تفرعات ثنائية بهذه البساطة، ففي كتاب صراع الطبقات في فرنسا، مثلاً ميز في المجتمع الفرنسي لتلك الحقبة بين البورجوازية المالية والبورجوازية التجارية والبورجوازية الصناعية والبورجوازية الصغيرة والطبقة الفلاحية، وطبقة البروليتاريا وطبقة البروليتاريا الرثة، مما يوحي بأن التعارضات الأساسية الثنائية المكتشفة لدى دراسة أنماط الإنتاج قد لا تكفي لتعريف الطبقات.

في الواقع، إن ماركس نفسه هو الذي أدخل فكرة ضرورة تمييز الطبقة بكونها تقاسماً للشرط الاقتصادي نفسه، الفلاحون مثلاً في كتاب برومير لنابليون بونابارت، يتقاسمون الشرط الاقتصادي نفسه، ومن هذه الزاوية يشكلون طبقة، والطبقة كطائفة، أي كجماعة تعي وجودها مع حد أدنى من التنظيم لتحسين وضعها، بيد أن في الحالتين، جذّر ماركس الطبقات في تنظيم الإنتاج على المستوى المجتمعي الكبير، واعتبر أن التنظيم وفق الطبقات التي هي إلى حد ما في صراع، هو العنصر الأساسي لتبنين هذه المجتمعات.

في الاصطلاح اللغوي الماركسي، نتكلم غالباً على مفهوم طبقة بذاتها، مثلاً الفلاحون، ومفهوم طبقة لذاتها التي قد تكون عليها مثلا البروليتاريا في حالة صراع، إن مواقع الطبقة تحدد الطبقات بذاتها وعندما يترافق موقع الطبقة بمشاعر الانتماء والأفعال الجماعية، حيث يمكن احتمالياً حضورها الأكثر أو الأقل من تمييز عدة نماذج، عندها يمكننا أن نتكلم على طبقات لذاتها، إن هذا التمييز والفكرة المقترنة به تتجاوز بشكل واضح المنظورات الماركسية وحدها.

لم يوسع ماركس بشكل كافٍ تحليل العلاقات التي بإمكانها أن تقوم بين المفهومين، لا شك أن الطبقة بذاتها بدت له أولية بمعنى أن الطبقة لذاتها، أي الطبقة الهوية، لا يمكن أن تظهر إذا لم تكن الطبقة بذاتها موجودة، ولكن إلى أي درجة يمكن للطبقات بذاتها أن تدوم دون أن تتحول إلى طبقات لذاتها، إن المسألة بالطبع هامة بالنسبة لكل منظور ديناميكي، ولكن ماركس لم يحسمها في كتاباته.

فبالنسبة له، كان من المسلّم به أن موقع الطبقة، كان يتحدد بحسب المكانة في النظام الإنتاجي، ولكن ليس هناك ما يمنع من الأخذ بعين الاعتبار تعريفات أخرى ومثالاً على ذلك، الانتماء إلى جماعة مقام بالمعنى الفيبيري.

في الواقع، وبناء على التوليف الذي قام به ريمون آرون، انطلق ماركس من فكرة تناقض أساسي في المصالح بين الأجراء والرأسماليين، وكان بالإضافة إلى ذلك مقتنعاً بأن هذا التعارض يهيمن على مجمل المجتمع الرأسمالي وقد يأخذ شكلاً أكثر بساطة شيئاً فشيئاً مع التطور التاريخي، ولكن من ناحية أخرى لاحظ كأي إنسان آخر وكمراقب للواقع التاريخي، وكان مراقباً مميزاً، تعددية الجماعات الاجتماعية، إذ إن الطبقة بكل معنى الكلمة تتميز عن أية جماعة اجتماعية أخرى، وهي تقضي في ما يتعدى وجودها كطائفة، الوعي بهذه الطائفة على الصعيد القومي وإرادة العمل المشترك من أجل تنظيم معين للمجتمع.

الإرث الماركسي في علم الاجتماع:

إن إرث ماركس هائل، فقد ساعدت أفكاره في تكوين العالم السياسي للقرن العشرين، وأدت إلى ظهور الأنظمة الاشتراكية، وألهمت الأحزاب السياسية في العديد من البلدان وبدلت تصورات عدد كبير من الناس، وظل طويلاً كل تفكير علمي حول الطبقات الاجتماعية، وحتى تاريخ حديث جداً، لا يمكن أبداً تصوره دون أن يترافق بتقييم حتى ولو كان ضمنياً للأطروحات العلمية أو الموجهة نحو الفعل المستوحاة من ماركس.

فمن زاوية التصورات المعرفية، إن إرثاً ماركسياً إلى حد ما أساسياً يبدو أنه ذلك الذي يتعلق بصراع الطبقات ودورها وأهميتها، فكل تصور للطبقات يتوجب عليه حالياً أن يحدد المقام الذي يعطيه لصراعاتها المحتملة، هل هي موجودة مما قد يؤدي إلى ترسيمات تبعية أحادية وهل تسهم في فهم الدينامية التاريخية أو الحديثة؟

كما يجب التشديد على الفرق بين ماركسين اثنين، الملاحظ من ناحية، الحريص على وضع ترسيمة تكمن من فهم مجمل الاختلافات الملاحظة بين الجماعات في مجتمع معين، والمحلل من ناحية أخرى، الذي يريد بناء نموذج من الطبيعة نفسها، تبعية أحادية واضحة، ولكنه أكثر صفاءً وتجريداً بكثير مكوناً نموذجاً مصغراً صالحاً يسمح بفهم ديناميات تطور المجتمعات.


شارك المقالة: