التصور العلائقي والوضعي للثقافة:
إن في تبني المقاربة الوضعية الخالصة أو الذاتية لمسألة الهوية الثقافية، يكون ذلك ضمن تفكير منقطع عن السياق العلائقي الذي يمكنه وحده أن يفسر سبب وجود وتكون هوية معينة في لحظة ما أو إثبات موضوع معين.
لأن الهوية الثقافية كانت عبارة عن أسس للبناء الاجتماعي، فهي ليست توهماً متوقفاً على مجرد ذاتية الأعوان أو الأشخاص الاجتماعيين، كذلك إن عملية بناء الهوية العلائقية يتم داخل الأطر الاجتماعيه التي تحدد موقع الأعوان، وتعمل على توجيهه في الوقت نفسه لكافة تمثلاتهم وخياراتهم.
وفضلاً عن ذلك فإن عملية بناء الهوية الثقافية ليست مجرد توهماً، لكنها ذو فاعلية اجتماعية وينتج منها آثار اجتماعية حقيقية، كذلك تعتبر الهوية عبارة عن بناء أساسي يبنى في علاقة تقابل فيها مجموعة معينة مع مجموعات أخرى تكون في تماس معها.
ندين لأعمال فريدريك بارث الرائد بتصوير الهوية هذه على أنها عبارة عن تجلي علائقي يمكّن الهوية من تجاوز الخيار البدائي سواء كان موضوعي أو ذاتي، وعلينا جميعاً بالنسبة إلى ما جاء به العالم فريدريك بارث أن نبحث عن ظاهرة الهوية الثقافية في مستوى العلاقات بين كافة المجموعات الاجتماعية.
فالهوية بحسب ما يراه العالم فريدريك بارث هي عبارة عن نمط تصنيف تستخدمه كافة المجموعات لتنظيم مبادلاتها، وعليه فإنه من الأمر المهم لعملية تحديد هوية مجموعة ما، ليس مجرد عملية جمع سماتها الثقافية المميزة، بل يجب أن نرصد من بينها تلك الأمور التي يستعملها أفراد المجموعة ليثبتوا تمايزاً ثقافياً ويحافظوا عليه.
وبتعبير آخر ليس الاختلاف في الهوية نتيجة مباشرة للاختلاف الثقافي، إذ أنها لا تنتج ثقافة معينة بحد ذاتها فهذه الأفكار لا يمكن أن تتولد إلا عن طريق وجود تفاعلات بين المجموعات، وأيضاً عن طريق وجود مجريات التمايز التي تضعها كافة المجموعات في موضع الفعل، إذ يكون ذلك من خلال علاقاتها ببعضها البعض.
نتيجة لذلك فإن أفراد المجموعة لدى العالم فريدريك بارث لا يتصورون على أنهم اشخاص محددون مطلقاً، وذلك بانتمائهم الإثني الثقافي لهم، حيث يكون ذلك تبعاً للوضعية العلائقية التي يتواجدون فيها وهذا ما يؤدي إلى اعتبار أن الهوية يمكن بناؤها وأيضاً إعادة ترميمها إذ يكون ذك داخل التبادلات الاجتماعية، وهذا التصور الديناميكي للهوية يتعارض مع ذلك، الذي يجعل منها نعتاً اصلياً لا يعرف التطور.
يتعلق الأمر بشك أساسي في عملية التغيير الجذري للإشكالية التي تضع دراسة العلاقة في مركز التحليل وليست ضمن عملية البحث عن جوهر مفترض يمكن من خلاله عملية تجديد الهوية، كما أنه من الجدير بالذكر ليست هناك هوية في ذاتها ولا حتى لغيرها وحسب الهوية هي ترتبط دائماً في علاقة جادة بالآخر.
إن عملية التماهي ” التقمص” تتوازى دائماً مع عملية التمايز، ذلك إذّ اعتبرنا أن الهوية دوماً عبارة عن محصلة لصيرورة معينة في وضعية علائقية، إذ يمكن أن تتطور إذا ما تغيرت الوضعية العلائقية، فإنه يكون من الأفضل ومن دون شك عملية التماهي بدلاً من مفهوم الهوية.
يمكن للتماهي أو التقمص أن يعمل بوصفه إثباتاً أو تقريرأً للهوية، فالهوية هي عبارة عن عملية تواطؤ لنفل مفاوضة بين هوية ذاتيه تحدد ذاتياً وهوية متغيرة أو هوية من الخارج التي يحددها الآخرون، ويمكن للهوية المتغيرة أن تنتهي إلى مجموعة من تحديات ذات طابع مفارق.
الوضعية العلائقية والوضعية المتغيرة:
تبعاً للوضعية العلائقية أي ميزان القوى بين المجموعات ذات الطابع التماسي، وبالأخص تلك التي يمكن أن تكون ميزان للقوى الرمزية، فإن الهوية الذاتية لها شرعية تفوق شرعية الهوية المتغيرة أو تقل عنها بدرجات معينة.
إن الهويه المتغيرة في وضعية هيمنة محددة تلك التي تتم ترجمتها بتنميط مجموعات الأقلية، وغالباً ما تنتهي في هذه الحالة إلى ما يسمى بالهوية السالبة.
كذلك إن الأقلية المعروفة من قبل الأغلبية على أنها أقلية ذات طابع مختلف بالنسبة إلى المرجع التي يتم وضعها فيه، لا تعرف نفسها في هذه الحالة إلا بهوية سالبة، وعليه فإننا نستطيع تغيير وضعية العلاقات ما بين الإثنية تلك التي تعادل بعمق الصورة السلبية مجموعة ما.
على هذا النحو تبدو الهوية على أنها رهان من الصراعات الإشكالية، ولا يتوجب من العلوم الاجتماعية أن تقدم تعريف صائب وغير قابل للدحض، وعلى ذلك ليس لعلم الاجتماع أن يحكم على الصفة الأصلية أو الصفة المغالية لهوية معينة.