إن القرآن الكريم حين يخاطب العقلاء، إنّما يخاطب فيهم تلك العقول ، كذلك يثير فيهم المشاعر والأحاسيس، بأسلوب فذ، وببيان معجز، وموسيقى ساحرة تأخذ الألباب فيجعل المخاطب يتخيل المعنى المجرد صورة ناطقة يتحسَّس فيها الحركة والحياة.
وإذا كان التصوير القرآني هو تثبيت أمام الرائي كلوحةٍ فنيةٍ قد تثير في ذهن السّامع معنى من المعاني، وتنقل في مخيلته مشهداً من المشاهد، فإنَّ التصوير في كتاب الله أوسع من هذا بكثير: فهو يقوم بتحويل الحروف الصوتية الجامدة إلى ريشة تنبع من رأسها الأصباغ والأشكال المميزة التي تثير إذن السّامع، وهي حسب الحاجة والطلب، لكي تحيل – بدورها – المعاني المعتادة إلى صورة يتأملها الخيال، ويدركها الشعور، وتكاد العين أن تستوعبها قبل أن يستوعبها العقل، وهو – كما يقول صاحب كتاب التصوير الفني في القرآن الكريم – تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل، كما أنَّه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل، وكذلك هو تصوير حي، منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة، تصوير تقاس الأبعاد فيه المسافات بالمشاعر والوجدانيات، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حيّة، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة.
من مظاهر التصوير الفني في القرآن
إن المتتبع لنصوص كتاب الله تعالى، والممارس لتلاوته أطراف النهار وآناء الليل ، سيلمس التصوير القرآني البياني في مظاهرة متعددة، منها :
القيام بإخراج المدلول اللفظي من دائرة المعنى الذهني بالصورة الحسيّة والمتخيلة، فيكون الخطاب أوقع في النفس، وأقوى في التأثير، وأدعى للقبول ؛ إذ يجعل الحس يتأثر عن طريق الخيال بالصورة ما شاء له التأثر؛ فيستقر المعنى في النهاية في أعماق النفس وذلك في قوله تعالى ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَ ٰبُ ٱلسَّمَاۤءِ وَلَا یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ یَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِی سَمِّ ٱلۡخِیَاطِۚ وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُجۡرِمِینَ﴾ [الأعراف ٤٠] وشاهد كيف تم رسم في الخيال صورة كأنّك تشاهد لتفتح أبواب السماء، وأخرى لولوج الجمل – وهو ذكر الجمل أو الحبل الغليظ – في سمِّ الخياط – ويترك الحس يتأثر- عن طريق الخيال – بالصورتين ما شاء له التأثر، لكي يستقر في النهاية معنى استحالة قبول هؤلاء المكذبين المستكبرين عن آيات الله تعالى .
ويدخل في هذا تصوير الحالات المعنوية والنفسية :
فالتصوير في كتاب الله تعالى كما أنَّه يُخرج المعاني العقلية بصور حسية، كذلك يقوم بإخراج الحالات النفسية وكذلك الحالات المعنوية صوراً متحركة وشاخصة، ويتم العدول بها عن التعبير العقلي المجرد إلى الرّسم المصوَّر.
ومثال ذلك قوله تعالى ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَ ٰبُٱلسَّمَاۤءِوَلَایَدۡخُلُونَٱلۡجَنَّةَحَتَّىٰیَلِجَٱلۡجَمَلُفِیسَمِّٱلۡخِیَاطِۚوَكَذَ ٰلِكَنَجۡزِیٱلۡمُجۡرِمِینَ﴾ [الأعراف ٤٠]