اقرأ في هذا المقال
الحلم من صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
“ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء” أحسن وأفضل خلقاً من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -، حيث امتدحه ربنا ـ عز وجل ـ على أخلاقه العظيمة فقال عز من قال: “{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }”(سورة القلم : 4).
ومن عظيم أخلاق النبي الكريم وجميله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو حلمه على من جهل عليه، وأيضاً عفوه عمن قد ظلمه، وما من رجل حليم إلا وقد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، إلا نبينا الكريم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، فما زاد مع شدة وكثرة الإيذاء إلا صبراً عظيماً جميلاً، وما زاد على إسراف الجاهل إلا حلماً، إذ كان النبي الكريم لا يغضب لنفسه أبدا.
فعن أم المؤمنين السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ” ما خُيِّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها”(أبو داود).
وكان سيدنا الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تستفزه الشدائد أبداً، وكانت لا تغضبه الإساءات، فقد اتسع حلم النبي الكريم حتى أنه قد جاوز العدل إلى الفضل وذلك مع من أساء إلى النبي وجهل عليه، فعن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه – :” لما كان يوم حنينٍ آثر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة ً من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى ناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذٍ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عُدِل فيها وما أريد فيها وجه الله، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف(شجر أحمر)، ثم قال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، ثم قال: يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر، قال : فقلت : لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثاً “(البخاري).
مواقف حلم النبي الكريم مع الإيذاء والغلظة وجفاء المعاملة:
روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : “كنت أمشى مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه(جذبه) بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فضحك ثم أمر له بعطاء”(مسلم).
وعن الصحابي الجليل أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: “أن رجلا أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتقاضاه فأغلظ، فهمَّ به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا، ثم قال: أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ ، قالوا يا رسول الله: إلا أمثل من سنه، فقال: أعطوه، فإن من خياركم أحسنكم قضاء”(البخاري).
ومن المواقف التي تتحدث عن حلم النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم هو ما روي عن أم المؤمنين السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ : “استأذن رهط من اليهود على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا: السام (الموت) عليكم، فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟، قال: قلتُ وعليكم” (البخاري).
وعندما كسرت رباعية النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وشج وجهه في يوم غزوة أحد، شق ذلك على أصحابه الكرام، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: ” إني لم أبعث لعانا، ولكني بعثت داعيا رحمة لهم، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون “(مسلم).
وقد قال القاضي عياض في كتابه الذي اسمه الشفا: ” قال القاضي أبو الفضل وفقه الله: انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان وحسن الخلق وكرم النفس وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم فقال: اغفر أو اهد، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله لقومي، ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال: فإنهم لا يعلمون “.
وعندما خرج النبي الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قبيلة ثقيف حتى يدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، وطلباً للحماية بسبب ما ناله من أذى من قومه، وكان ماشياً على قدميه الشريفتين في مرارة ومعاناة، إلا أنه كان قد اجتمع مع تلك المشقة والتعب والمعاناة سوء المقابلة والسفاهة والإيذاء، ولمَّا أمكنه الله عز وجل منهم ظهر وعلا حلمه صلى الله عليه وسلم وعفوه عنهم.
فعن أم المؤمنين السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: “هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال : ( لقيت من قومكِ ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كُلاَل ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب ـ وهو المسمى بقَرْنِ المنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال : يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين(الجبلين) ، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا “(البخاري).
وكان سيد الخلق سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحلم الناس، حيث كان يتجاوز عن المسيء، فكان يشرق ويضيء قلبه بدين الإسلام، وذلك كما حدث مع أبي سفيان يوم أن جيء به إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له ـ مع كثرة وشدة إيذائه له ـ: “ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك”(الطبراني).
وجاءه رجل اسمه “زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه دَيْناً عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فانتهره عمر وشدد له في القول، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبتسم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “وأنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر: تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، ثم قال لقد بقى من أجله ثلاث، وأمر عمر يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعا لروعه فكان سبب إسلامه، وذلك أنه كان يقول: ما بقى من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلما، فأخبرته بهذا فوجدته كما وصف “.
لقد تضافرت وتعاونت الأخبار على اتصاف سيد الخلق سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحلم، وحسبنا ما قد بلغ متواتراً من صبر النبي وعن حلمه على الكثير من الشدائد الصعبة والإيذاء الشديد من قريش، إلى أن أظفره الله عز وجل عليهم وحكَّمه فيهم، وقومه لا يشُّكون في استئصالهم وفي الانتقام منهم، فما زاد النبي على أن حلم وعفاً عنهم، وقال عليه الصلاة والسلام: “ما تقولون وما تظنون؟، قالوا: نقول ابن أخ وابن عم حليم رحيم، فقال : أقول كما قال يوسف لإخوته: “{ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }”(يوسف: من الآية92) )(البيهقي) .
ولأهمية صفة الحلم في حياة الشخص المسلم أوصى به النبي الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيراً، وقد جعل جزاءه عظيماً، فعن الصحابي الجليل أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً قال للنبي الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : “أوصني قال: لا تغضب، فردد مِرارا قال: لا تغضب”(البخاري).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”(البخاري) .
وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: “قال رجل لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تغضب ولك الجنة”(الطبراني) .
ومن ما دل على اهتمام النبي بصفة الحلم ما روي عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال: “من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخيِّرهُ الله من الحور العين ما شاء”(أبو داود).
فما أحوجنا في كل زمان ومكان إلى الاقتداء بسيد الخلق سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حلمه وفي عفوه، بل في جميع أخلاقه، وذلك هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: “{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }”(الأحزاب: من الآية21).