ما هي الخلافات التي دارت بين الرسول واليهود بعد وثيقة المدينة؟
أظهرت وثيقة المدينة المنورة معالم المشروع السياسي والإسلامي والذي كان يتلخص في بناء دولةٍ جديدة، دولة تقوم على العقيدة الإسلامية والدين الجديد؛ الأمر الذي أثار مخاوف اليهود على أواضعهم الحياتية من ناحية وعلى أوضاعهم الدينية ومخاوفهم من انهيار تحالفاتهم مع المسلمين ومع غيرهم من ناحية ثانية، فضلاً عن مظاهر تزايد هجرة الناس الداخلين في الدين الإسلامي الجديد للمدينة المنورة.
حيث تُعزّز هذه الهجرة قوة المسلمين وتُضعف بشكل كبير مركز اليهود، وحينها لن تكون هناك أمام اليهود أيَّة آمال في أن يستعيدوا سلطتهم في المدينة المنورة، وهي السلطة التي قد سلبتها قبائل الخزرج والأوس من اليهود.
تحرك اليهود:
وانطلاقاً من كل ذلك بدأت خيوط اليهود بالتحرك ضد رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وبمحاربة دعوته عليه الصلاة والسلام بشكلٍ فكري، خاصةً وأن اليهود على درايةٍ تامة بكل تلك التحركات؛ وذلك بصفتهم أنّهم من أهل الكتاب، فظهرت حينها مرحلة الجدال ومرحلة الكلام والقيام بحرب الإعلامية كبيرة، تمس تلك الحرب جوهر فكر رسول الله صلى عليه وسلم من الناحية السياسية وأيضاً من الناحية الدينية، فبدؤوا حينها بتوجيـه العديد من الأسـئلة للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم التـي وصل فيها اليهود إلى التعنت وقد قصدوا من خلال هذه الأسئلة إحراج النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وأيضاً تشكيك المسلمين في دين الله الإسلام، فسـألوه عن:
1.عن الروح.
2.عن الساعة.
3.وأن يأتيهم بالمعجزات.
4. تهجموا على الـذات الإلهيـة.
5.ووصلوا إلى حد الاستهزاء والسخرية فاتهموا الله بالفقر.
6. وأخذوا يؤمنون أول النهار ويكفرون.
7.ويكفرون آخره.
8.ويثيرون الفتن والأحقاد بين الأوس والخزرج.
حيث قد أولت الآيات القرآنية الكريمة وخاصة الآيات المدنية تلك المسألة أهمية كبيرة جداً، حيث يمكن ملاحظة ذلك الأمر من خلال العديد من الآيات القرانية الكريمة التي تولت وتحدثت عن مناقشات اليهود وعن حججهم وأيضاً عن الرد على أسئلتهم التي وجههوا للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، بل وقد شـنّ القـرآن الكريم هجمـات عديدة معاكسة على اليهود، فأخذ القرآن الكريم يلوم اليهود وأخذ يعنفهم وأيضاً أخذ يصفهم بصفاتهم قد التي امتازوا واتصفوا بها طيلـة تـاريخهم السئ وذلك في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، وفي سورة النساء وفي سورة المائدة، وفي مرحلة من المراحل المتقدمة حذر القرآن الكريم المؤمنين من أن يقوموا بأي تحالف مع اليهود، فقال الله عز وجل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ”.
حيث قد ظهرت واشتدت العديد من الخلافات بين المسلمين وبين اليهود وذلك بعد تحويل القبلة، حيث تحولت القبلة من بيت المقدس إلى مكـة المكرمة وذلك بعـد مدة سبعة أو ثمانية عشر شهراً من الهجرة النبوية الشريفة، وقد أثارت اليهود حول هذا الأمر جدلاً كبيـراً، قال الله تعالى:“۞سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (142) وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ”.
ولكن بعد هذا أصبح ذلك النفور بين المسلمين وبين اليهود ظاهراً وواضحاً بشكل كبير بين الطـرفين حتـى أنّه قد وصلت بهم إلى التشاجر في العديد من الأوقات في الشوارع، حيث فجرت غزوة بدر الموقف، فربما قد اعتبر أهل المدينة المنورة من اليهود أن التشريع الذي سمح للمسلمين بالقتال وأن انتصارهم على الوثنية في تلك الغزوة هو إيذاناً بالقضاء على اليهود، وإيذاناً بالقضاء على كيانهم المادي وعلى كيانهم المعنوي، وبسبب ذلك قاموا بنقض عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وقفـوا حينها مع صف الوثنية بشكل علني، وقد عبر الواقدي عن هذا بأصدق تعبير بقوله: “لمّا قدم رسول الله المدينـة وادعته يهود كلها، وكتب بينه وبينهم كتاباً، والحق رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قوم بحلفائهم، وجعل بينـه وبينهم أماناً، وشرط عليهم شروطاً، فكان فيما شرط ألا يظاهروا عليه عدواً، فلما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر، وقدم المدينة بغت يهود، وقطعت ما بينها وبين رسول الله مـن العهـد “.
وقد أظهرت أكثر المصادر الإسلامية أنَّ نقض اليهود لتلك العهود والمواثيق مع النبي محمد كـانت السـبب الكبير فـي إعلان الرسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب على اليهود، لتكون حينها بداية مرحلة المواجهات المادية، والتي انتهت تلك المواجهات بالقضـاء علـى اليهود والقضاء أيضاً على دورهم في الحجاز إن لم يكن تمَّ القضاء عليهم في جزيرة العرب وفي بلاد الشام.