المبادئ التي احتوت عليها وثيقة المدينة

اقرأ في هذا المقال


المبادئ التي احتوت عليها وثيقة المدينة:

تُعتبر معاهدات ووثائق النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود سواء أكانت في المدينة المنورة أو خارج المدينة المنورة صورة واضحة وشديدة الأهمية من المعاهدات والوثائق التي كان يقوم بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بسبب اتساع دائرة احتكاك اليهود بدولة الإسلام في عهد النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم، برغم ما وصلت إليه أغلب تلك المعاهدات والوثائق من غدر الجانب اليهودي لها، وبرغم اتصال واستمرار الوفاء النبوي العظيم لتلك المعاهدات، وهذا الأمر يوضح لنا صورة من الصور المشرقة للثبات الديني والأخلاقي والالتزام بالمعاهدات والوثائق عند المسلمين، وعلى رأسهم أسوتنا وقدوتنا حبيبنا المصطفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

حرية العقيدة في الإسلام:

لقد أشار البند الأول من تلك الوثيقة إلى ذلك الأمر بشكل واضح: “يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. مواليهم وأنفسهم”. وتلك هي القاعدة الأولى؛ ومعنى تلك القاعدة هو أن الحرية العقيدية في دين الإسلام هي حقيقة كبرى، حيث قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: “{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}” [البقرة: 256]؛ فللمسلمين دين لهم، ولليهود دين لهم، وفي ذلك الأمر إشارة واضحة بشكل كبير وهامة أيضاً إلى أن اليهود بموجب تلك الوثيقة والبند الأول أن يتمتَّعُون بحريتهم الثقافية ولهم الحقوق كاملة، وأن الموقف من جميع النواحي إن كانت من الناحية الدينية والقانونية التي تُنَظِّم حياتهم الخاصة هو أمر ثابت لم يتغيَّر، وأن لليهود كل الحرية التامة في أن يعبروا عن جميع آرائهم وذلك في ظلِّ القانون وفي ضل الثقافة التي كانت تحكم مجتمع المدينة المنورة في ذلك الوقت من الزمان.

استقلال الذمة المالية:

في البند الثاني “إن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم”: في هذا البند توضيح كامل أن لليهود ذمة المالية مستقلَّة لهم ووهي ذمة محفوظة تمامًا، بعيدًا عن أي ذمَّة المسلمين من الناحية المالية، فهذا يعني أننا ليس إن عاهدناهم وأن القيادة والزعامة والرئاسة والحكم في الدولة تكون للمسلمين أن يتم أخذ حقوقهم أو أن نقوم بمصادرة ما لديهم من ممتلكات، بل إن لديهم كامل حرية التملُّك ما داموا وبقوا محافظين على عهدهم مع المسلمين في داخل هذه الدولة الإسلامية.

التعاون في حماية الوطن حالة الحرب:

إن الاستقلال المالي الذي كفله البند السابق في وثيقة المدينة يكون ذلك الاستقلال في حال السلم؛ لكن في حالة الحرب فإن ذلك الأمر يتغيَّر تماماً، فإذا كان هناك هجوم على المدينة المنورة فإن الجميع في المدينة المنورة بمقتضى حقِّ المواطنة يجب عليه أن يقوم بالدفاع عن المدينة المنورة؛ بما أنهم يعيشون جميعاً في مكان واحد وبلد واحد ودولة واحدة فإنه من الواجب عليهم أن يكونوا متعاويين في الدفاع عن تلك المدينة أو البلد في حال تعرَّضها لعدوان خارجي.

وذلك الأمر يُشير إليه البند الثالث في الوثيقة: “وإن بينهم النصر على مَنْ حارب أهل هذه الصحيفة”، ولا يكون ذلك في التناصر العسكري فقط، ولكن يجب أن يُنفق اليهود مع المسلمين وذلك من أجل الدفاع عن البلد أو عن دولة المدينة المنورة.

إن تلك البنود في وثيقة المدينة تُؤَيِّد بشكل كبير أنه لا يُوجد هناك أي طرف يتميَّز على الطرف الآخر، ولا يُوجد أي طرف يمكنه أن يشعر أنه غريب في ذلك المجتمع؛ بل إن الجميع في هذا المجتمع دون استثناء مشتركون في حماية وفي الدفاع عن وطنهم ودولتهم.

العدل التام:

يعتبر العدل أحد الأساسات العظيمة ولها بصمات واضحة في الوثيقة النبوية؛ وذلك لأن العدل يعتبر أحد مقوِّمات الاستقرار والراحة في جميع المجتمعات والشعوب، وبدون العدل يصبح الإنسان الضعيف مغلوبًا على أمره، ويكون فاقدًا لجميع حقوقه، بينما في عدم وجود العدل يرتع الشخص القوي ويأخذ حقوق الآخرين من دون أي وجه حقٍّ.

حيث كانت العديد من المجتمعات في الجاهلية تقوم على مبدأ نُصرة القريب؛ سواء أكان ذلك القريب يظلم أو مظلوم؛ وكان ذلك المبدأ ذلك بدافع العصبيَّة والقَبَليَّة أيضاً، فعندما جاء دين الإسلام هذب ودمر هذا المبدأ وذلك بِإقرار نُصرة المظلوم، حيث جَعْل نُصرة الظالم من خلال الأخذ على يديه وأيضاً مَنْعِهِ من القيام الظلم.

كما أن بند: “وإن النصر للمظلوم”، أُطلق فيها لفظ المظلوم حتى يظهر لنا أحد مظاهر عظمة دين الله الإسلام وذلك من خلال إقرار حقوق الإنسان في تلك الوثيقة؛ فسواءٌ أكان المظلوم مسلمًا أو كان يهوديًّا فإن النصرة تكون لهم، وعلى ظالمه العقوبة، فلو أن مسلمًا ظَلَم يهوديًّا فإنه يُعَاقَب على هذا الظلم، ويُرَدُّ الحقُّ إلى اليهودي، وكذلك لو ظَلَم شخص يهوديٌّ شخص مسلمًا فإن الشخص اليهودي يُعَاقَب ويتم رَدُّ الحقُّ إلى الشخص المسلم.

ذلك هو تشريع دين الإسلام العظيم التشريع الذي يحفظ لكل شخص حقوقه كاملة، من دون النظر إلى ما يعتنقه ذلك من دين أو عقيدة أو قبيلة، أو ما يحمله ذلك الشخص من أفكار، وذلك هو عدل العظيم في دين الإسلام.

ويجب على كل طرفٍ من الأطراف أن يتحمَّلَ كامل المسؤولية فيما يقوم به من أعمال: وذلك في بند “وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه”، فعندما يرتكب الشخص إثمًا أو أي خطأً وكان مقصوداً متعمِّدًا؛ فإن الشخص وحده هو من يتحمل مسؤولية عمله بشكل كامل، ولا تكون المسؤولية على حلفائه من الذين لم يشاركوه في ذلك العمل أدنى، وإلا كان ذلك الأمر قد ساعد بشكل كبير على انتشار المشاكل والإثم وانتشار والبغي.

ومن البنود التي توضح وتُؤَكِّد بشكل كبير ومهم على معنى العدل هو البند الثاني عشر والذي يقول: “وإنه لا يَحُولُ هذا الكتاب دون ظالم أو آثم”، فدستور الإسلام لن يكون ملاذًا ومكاناً للظالمين وللآثمين، ولن يكون دستوراً يحتمون به ممن قاموا بمظلمهم ومن أصحاب الحقوق؛ بل إنه على العكس بشكل كامل من فإن هذه البنود وهذه الوثيقة تقوم بردُّ (بموجب بنودها) جميع الحقوقَ إلى أصحابها.

التعاون والتناصح وحفظ الوطن:

ويدل هذا البند:“وإن بينهم النصح والنصيحة، والبرَّ دون الإثم”‏؛ أنه بموجب تلك الوثيقة والعهد المبرم يجب على الأطراف التي قامت بهذه المتعاهدة القيام بالنصيحة فيما بينها، ويشمل ذلك الأمر القيام بالنصح للأطراف الأخرى بكل صدق وإخلاص، والقيام بقبول النصيحة منهم.

مرجعية واحدة:

حيث يُؤَكِّد البند التاسع في الوثيقة النبوية ذلك المعنى: “وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدَثٍ أو اشتجار يُخاف فساده فإن مردَّه إلى الله –عز وجل، وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم‏”، وذلك البند يعتبر بنداً مهماً حيث يكفل هذا البند التوازن في العلاقة، ووضوح معالم العلاقة بين دولة المسلمين وبين ومواطنيها من غير المسلمين؛ حيث أنه مع ما قرَّرته تلك البنود في الوثيقة النبوية من حريات ومن حقوق، إلاَّ أن ذلك البند يقوم بكشف جانب مهم من العلاقة، حيث يكشف أن المرجع القضائي والقانونية والقيام بالفصل في الخصومات يكون كل هذا مرده ومرجعه إلى شريعة دين الإسلام، وإلى قضاء دولة المسلمين المتمثل في ذلك الزمان في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ما لم يكن الأمر من خصوصيات دينهم).

عناية الإسلام بحقوق غير المسلمين:

ولعل الأمر الملفت للنظر والمهم أيضاً من خلال القيام باستعراض تلك البنود في الوثيقة النبوية أن عناية واهتمام دين الإسلام بحقوق الناس من غير المسلمين كان مسألة مبدئية، حيث أنها مسألة لا يعمد إليها المسلمون مضطرين أو مهزومين؛ بل أن تلك المسألة هي عبارة عن ركن أصيل من الفقه في الدين الإسلامي قد جاء به ديننا الحنيف منذ اليوم الأول الذي قامة به دولة الإسلام الوليدة، وأن هذه الكفالة الكاملة والتامَّة لحقوق الناس الأقليات من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي هو أمر واقع من قبل أن يكون ذلك الأمر على بال الآخرين.

كانت تلك هي المعاهدة النبوية بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين اليهود من العرب من قبائل الأوس والخزرج، أمَّا بنود ونصوص هذه المعاهدة مع قبائل والتي هي: :”بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة”، فلم يكن هناك أي نسخة محفوظة منها، لكن مع الإقرار التام والكامل بثبوت تلك المعاهدة واقعيًّا بشكل مؤكد، حيث أنه لا يُوجد أي نقل صحيح يُشير ويظهر إلى بنود المعاهدة بشكل تفصيلي، وإن كان الأغلب هو أنها البنود نفسها؛ وذلك لأن شواهد التعامل مع أهل المدينة المنورة من يهود القبائل الثلاث التي تم ذكرها كانت تُشير وتوضح إلى وجود مثل تلك البنود في المعاهدات.


شارك المقالة: