اقرأ في هذا المقال
الملك يطلب لقاء يوسف عليه السلام:
قال الله تعالى: “وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي” يوسف:50. لم يقل إن الساقي رجع إلى الملك وروى له ولحاشيته ماذا قال له يوسف، ثم تدالوا وقرر الملك أن يُرسل في طلب يوسف؛ لأن هذا مفهوم بالسياق، ونحن نلاحظ أن هذه سمةً مميزة للقرآن الكريم، فهو يترك الأشياء التي يتوصل إليها العقل؛ لتجتهد العقول فيها.
فلما جاءه الرسول، معنى هذا أن يوسف كان ما زال باقياً في السجن، حتى بعد أن فسر رؤيا الملك، ولذلك عاد الساقي إلى السجن مرةً أخرى من أجل أن يُبلغ يوسف أن الملك يريد أن يراه، ولذلك عاد الساقي إلى السجن مرةً أخرى؛ ليبلغ يوسف أن الملك يُريد أن يراه فقال يوسف كما يقص علينا القرآن الكريم: “ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ” يوسف:50، وهكذا رفض يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن الذي هو فيه، إلا إذا برئت ساحته براءةً يعرفونها أهل المدينة جميعاً بما فيهم الملك، وطلب يوسف أن يسأل الملك النسوة، كيف راودن يوسف عن نفسه، وهكذا تعطينا قصة يوسف العبرة التي تخدمنا في قضايا الحياة فبراءة الساحة أمرٌ مهم بالنسبة لكلّ إنسان، وما دام بريئاً فلا بدّ أن تُعلن برائتهُ ويعرفها جميع أهل المدينة، لم يقبل يوسف الخروج من السجن وتلاحقه الإشاعات الكاذبة، رغم أن الله تعالى يعلمُ ببرائته ولكن أراد أن يبلغها للناس؛ ولأنه رسول، والرسول هو قدوةً سلوكية، ولكي يؤدي رسالته ويتبعه الناس، فلا بدّ أن يكون قدوةً لا تشوبها أي شائبة.
ومعنى قوله تعالى: “وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ ” أي معناه أنه سيُقربهُ إليه، ولكن رغم هذا فإن يوسف رفضَ أن يترك السجن إلا بعد أن يبرأ علناً، ومن الملك وأمام الناس جميعاً، ولذلك يُروى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما معناه: رحم الله أخي يوسف، لقد كان كريماً حينما جاءه الرجلُ يسألهُ عن تفسير الرؤيا، كان من الممكن أن يقول لن أفسرها إلّا إذا أخرجتموني من السجن، وكان كريماُ حينما قال الملكُ أئتوني به، وذهب إليه من يأخذه، فقال لن انتقل إلّا إذا نظرتُ حكاية النسوة التي قطعنّ أيديهن، وكان كريماً حينما ستر على امرأة العزيز وقال: “مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ” يوسف:50.
قال الملك: “قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ” يوسف:51. فقد جمع الملك نُسوة المدينة، وخاطبهن وواجهن بأنهن راودن يوسف عن نفسه، المرادة بالاتهام هي امرأة العزيز، ولكن الملك بناء على ما قاله يوسف، فجمعهن وقال لهنّ، ما خطبكنّ؟ والخطب حدث ولكنه حدث هام يتناقله الناس؛ الملك حينما خاطب النسوة اعتبر أنّ مراودتهنّ يوسف عن نفسه عملية خطيرة، تدلُ على انعدام القيم، ولما رأى النسوة هذه اللهجة الشديدة من الملك، أسرعنّ يُنفين التهمة عن أنفسهن، فقلنّ: “حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ” يوسف:51. نلاحظ في هذه الآية أنهن يتحدثن عن مسألة مراودتهنّ ليوسف، أي برأن يوسف ولم يُبرئن أنفسهن: “حاشَ للهِ” تنزيهاً ليوسف من أن يفعل ما يغضب الله، وقلنّ “ما علمنا عليهِ من سوءِ” يعني يوسف كريم الخلق لا يفعلُ سوءاً أبداً، بالنسبة لهؤلاء النسوة أو غيرهنّ، وكانت امرأة العزيز جالسة مع هؤلاء النسوة، فقد أتى بها الملك معهنّ، ولم يشر إليها القرآن الكريم إلّا عندما تكلمت وقالت: “الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ – ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ” يوسف:51-52.
ما هو ردّ فعل امرأة العزيز عند مراودتها ليوسف عليه السلام:
لقد وقفت امرأة العزيز وقالت: إنه لم يعدّ هناك مجال للستر، أنّا راودتهُ فعلاً وهو صادق، مما يدلنا على أنّ الجذوة الإيمانية في الإنسان تتوهج، وأنه قد ينسى الله، ولكن عندما ينتهي الخاطر السيء، يعود إلى توازنه الكمالي، وربما جعل من الزلة الأولى، وسيلة الإحسان فيما ليس له فيه ضعف، ولذلك يقول الحق في كتابه الحكيم: “إنّ الحسناتِ يُذهبنَ السيئات” ولو أن الإنسان عملَ سيئةٍ، فقد يُضاعف من حسناته حتى يغفر الله له هذه السيئة، ولذلك على الإنسان أنّ يكثر من عمل الخير، ليمحوا الله سيئاته التي سترها عن الناس.
قول امرأة العزيز: “ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ” يوسف:52. يعني حتى يعلم يوسف أنني في غيبتهِ دافعتُ عنه، وقلت الحق وقوله تعالى: “وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ” يوسف:52. ومعناه أن الجريمة لا تفيد، ولا بدّ أن يعرف الناس الحقيقة ولو بعد حين. وقوله سبحانه وتعالى: “وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّ” يوسف:54. أي بمعنى أنا أريد أن أبرئ نفسي كذباً؛ لأن النفس على إطلاقها تأمر بالسوء ولكن يوسف نفس؛ ولذلك قال القرآن الكريم: “ومَا أبرئ نفسي” قال بعض العلماء: إنه من قول يوسف عليه السلام، عندما أُبلغ أن امرأة العزيز قالت كذا كذا، قال يوسف: أنا لا أبرئ نفسي إنّ النفس لأمارةً بالسوء؛ لأن هناك أحياناً يأتي غرور الإيمان في النفس، فيُحاول الرسول أن يتذكر أنه بشراً لا تعصمهُ إلا رحمة الله.