تعلم زكريا عليه السلام أن الله يعطي وإن عجزت الأسباب:
لم يُصدق زكريا عليه السلام البشرى من شدةِ سعادته، فقد أراد أن يتاكد منها لذلك قال: “ربي أنى يكون لي غلاماً وكانت غمراتي عاقراً وقد بلغتُ من الكِبر عِتيا” مريم:8. فأوحى إليه أن إطرح الأسباب التي عرفها ؛لان الذي يكلمهُ هو الخالقُ عزّ وجل الذي قال له: “هو عليّ هين وقد خلقتك من قبلُ ولم تكُ شيئاً” مريم:9. ولكن من أين تعلم زكريا إن الله يعطي وإن عجزت الأسباب ، فقد عرف هذا لأنه كان موصولاً بالله عزّ وجل، واستجاب الله تعالى لدعاء زكريا، ووهبهُ يحيى، فقال تعالى: “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ“ الانبياء:90.
إنّ الله تعالى وهبَ لزكريا عليه السلام غلاماً رغمَ تعطل الأسباب، وفوق كلّ ذلك أسماه الله يحيى، فالله سرٌ في تلك التسمية؛ لأن الناس يضعون الأسماء بمسمياتها، وكلُ واحدٍ حرّ في أن يضع إسماً لأي مسمى، فلو أن إمرأةً زنجيةً أنجبت بنتاً لأختارة لها اسم قمر لا يستطيعُ أحداً أن يمنعها من ذلك. فالناس أحرار في تسمية ما يريدون، فالاسمُ يخرج من معناه الأصلي إلى أنّ يصير علماً على هذا المُسمى وإن حاد عنه المعنى فتسمى واحداً سعيد، وهو شقي ، وتسمية فاضل وليس عنده شيئاً من الفضل؛ لأن الناس يسمون هذه الأسماء تفاءلاً أن يكون مولوداً كذلك.
فأنت إذا أسميت ابنك يحيى لا تملك له أن يحيى أو يعيش. ولكن إذا سماهُ من يملك الموت والحياةَ فلا بدّ أن يحيى، والذي يقوله الله فيه، لا بدّ أنّ يظل ذكرهُ حتى بعد موته، ولذلك إن شاء الله ليحيى أن يموت شهيداً حتى يظلّ حيّاً. وكلمة “ووهبنا” معناها أن هذا المولود لم يأتي عن طريق القانون التكويني للناس، ولكنه جاءَ هبةً من الله رغم كبر والدهِ وعُقم أمهِ فلا بدّ أن يعطيه أطول من حدود أعمار الناس، بل إنه لا يموت أيضاً؛ لأنه شهيد لكن الكلُ من البشر يموت، فالحقُ تعالى يهيأ يحيى من خصومهِ ومن أعدائهِ من يقتلهُ ليكونَ شهيداً، وهو بالشهادةِ يصيرُ حيّاً وكأنه يحيا دائماً.
ومعنى “أصلحنا له زوجهُ” أي جعلناها صالحةً للإنجاب بعد أن كانت عاقراً، يعني يحيى عليه السلام جاء بقدرة الله وحده بغير الأسباب الكونية للميلاد؛ لأن الله تعالى أراد ذلك، فالله سبحانه أصلح الزوجةَ التي كانت غير صالحةً للإنجاب، وعملية الإنجاب هذه ليست عمليةً ميكانيكية، لكنها متعلقةً بإرادة الخالق ومشيئتهِ فأحياناً تجد زوجين صالحين للإنجاب ومع ذلك يتأخر الحمل شهوراً أو سنوات؛ لأن الله تعالى لم يأذن بالذرية، وأحياناً تجد زوجين استمرت حياتهم الزوجية سنوات طويلة دون إنجاب،وربما يحدث طلاق بينهما وتتزوج الزوجة فتنجب، ويتزوج الرجل فينجب فهذه أشياء ليست ميكانيكةَ، ولكنها تخضع لمشيئة الخالق، ولذلك فعلى المسلم الذي يبتلي بالعقم ويستنفذ الأسباب أن يكثر من فعل الخيرات ويدعو الله سبحانه وتعالى ويلحُ عليه في الدعاء.
ومعنى قول الله تعالى: “خاشعين” أي راضيين بقدرهم في وجود العقم، ولا يرفع قضاء حتى يرضي صاحبه به، فإذا كنت عقيماً فلا تبخل بمالك وتضنُ به على المحتاجين.