كان النبي عليه السلام قد خصص جماعة من الصحابة مثل ( أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان وعلي، وخالد بن الوليد، وسيدنا زيد وأبي بن كعب وثابت بن قيس) كان يأمرهم بكتابة كل ما ينزل من القرآن، حتى تظاهر الكتابة جمع القرآن في الصدور، وقد أخرج الحاكم في “المستدرك” بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت أنّه قال: “كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع”، وكلمة “الرقاع” في الحديث “وهي جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد” تشعرنا بنوع أدوات الكتابة المتيسرة لكتاب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان يتم كتابة الآيات على الحجارة الدقيقة وصفائح الحجارة” وجريد النخل، ويكتبون على عظم الجمل أو الشاة يكتبون عليه بعد أن يجف” وعلى الخشب ، ” والجلد”، ومعنى تأليف القرآن من الرقاع “الوارد في حديث زيد” ترتيب السور والآيات وفق إشارة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيفه، فأما الآيات في كل سورة ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه.
ترتيب السور والآيات كان توقيفي:
العلماء قالوا: بحرمة تعكيس وتنكيس السور والآيات” ويستدل على ذلك بما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ “المعنى : لماذا تثبتها بالكتابة أو تتركها مكتوبة وأنت تعلم بأنّها منسوخة” قال: “يابن أخي، لا أغير شيئا من مكانه، وسيدنا عثمان رضي الله عنه لا يجرؤ على تغيير آية من مكانها، ولو ثبت له أنّها منسوخة، لأنّه يعلم أن ليس له ولا لغيره دخل في ترتيب آيات القرآن بعد أن وقّف جبريل رسول الله على ترتيبها، ووقف رسول الله بدوره كتبة الوحي على ذلك.
وأخرج أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: “أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}.
وهناك الكثير من الأحاديث التي صورت نبينا محمد عليه السلام ، يُملي القرآن على كتاب الوحي، ويوقفهم على نظم الآيات، وقد نقل بالسند الصحيح أنّه صلى الله عليه وسلم قرأ سورا عديدة بترتيب آياتها في الصلاة أو في خطبة الجمعة بمشهد من الصحابة، فكان ذلك دليلا صريحا على “أن ترتيب آياتها توقيفي، وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيباً سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك مبلغ التواتر”.
كيف كان يتم ترتيب السور؟
وأمّا ترتيب السور فكذلك يٌعتبر بتوقيف من الله تعالى، وقد علم في حياة النبي عليه السلام ، وهو يشمل السور القرآنية جميعا، وليس هناك دليل على عكس ما ذكرناه، فلا مسوغ للرأي القائل: إن ترتيب السور اجتهادي من الصحابة، ولا للرأي الآخر الذي يفصل: فمن السور ما كان ترتيبه اجتهادياً، ومنه ما كان توقيفيًا، وإذن، فقول الزركشي: “وترتيب بعضها ليس هو أمر أوجبه الله، بل أمر راجع إلى اجتهادهم واختيارهم, ولهذا كان لكل مصحف ترتيب”، لا ينبغي أن يسلم على علاته، لأنّ اجتهاد الصحابة في ترتيب مصاحفهم الخاصة كان اختيارا شخصيًا لم يحاولوا أن يلزموا به أحدا.
ولم يكونوا يدعون إلى مخالفتهم وتحريمهم، إذ لم يكتبوا تلك المصاحف للناس بل كانت لهم فقط حتى إذا اتفقت الأمة على الترتيب العثماني، أخذوا به وتركوا مصاحفهم الفردية، ولو أنّهم كانوا يعتقدون أنّ الأمر مفوض إلى اجتهادهم، موكول إلى اختيارهم، لاستمسكوا بترتيب مصاحفهم، ولم يأخذوا بترتيب عثمان. ثم إنّ الزركشي نفسه يرى أنّ “الخلاف يرجع إلى اللفظ” بين القائلين بالتوقيف والقائلين بالاجتهاد في ترتيب السور، ويتستدل على ذلك بقول الإمام مالك: “إنّما ألّفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم، مع، قوله بأن ترتيب السور اجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنّه: هل ذاك بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي؟”.
وقد حدث خلاف بين البعض وقد اعتمدوا على حديث ضعيف جداً، بل هو حديث ليس له أصل له، ويدور إسناده في الأسانيد على“يزيد الفارسي” الذي رواه عن ابن عباس”، ويزيد الفارسي هذا “يذكره البخاري في الضعفاء، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن، الثابتة بالتواتر القطعي قراءة وسماعاً وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور. كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك!
فلا علينا إذا قلنا: إنّه “حديث لا أصل له”، ولا داعي للإطالة بذكر هذا الحديث الباطل، بل نشير إلى أن موضع الشاهد فيه جواب عثمان لابن عباس، معللا قرن براءة بالأنفال من غير البسملة: “وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيها بقصتها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنّها منها، وظننت أنّها منها، فمن ثم قرنت بينهما.. إلخ”.
الرأي الراجح المختار إذن أن تأليف السور على هذا التنسيق الذي نجده في هذه الأيام في المصاحف هو -كتأليف الآيات على هذا الترتيب- توقيفي لا مجال فيه للاجتهاد، على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم هذا التوقيف، لم يجد من الدواعي ما يحمله على جمع آيات كل سورة في صحائف عدة، ولا جمع القرآن كله بين دفتي مصحف واحد: لأنّ القراء ومستظهري القرآن كانوا كثيرين.
وكان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ينتظر نزول جبريل عليه السلام عليه، ويقوم بنسخ بعض أحكامه، فالقرآن كله كُتب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مجموع في مصحف واحد، فقد أغنى عن ذلك حفظ الصحابة له في صدورهم كما وقفهم عليها الرسول ونبههم إلى مواضعها بتوقيف من الله قال الزركشي: “وإنّما لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مصحف لئلا يفضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم”.
أين كانت نسخ المصحف؟
وكل ما كان يكتب كان يوضع في بيت النبي عليه السلام، والصحابة رضي الله عنهم كانوا ينسخون المصحف لأنفسهم كل واحد منهم نسخة لنفسه، ثم اجتمعت نسخ هؤلاء الكتاب والصحف التي في بيت النبي مع حافظة الصحابة الأميين وغير الأميين، على حفظ القرآن وصيانته، مصداقا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.