حجة الوداع:
بعد أن أتمّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم أعمال الدعوة الإسلامية، وإبلاغ رسالة دين الإسلام ونشرها، وبعد أن أتم بناء مجتمع جديد على أساس ومنهج إثبات الألوهية لله وحده لا شريك له، ونفيها عن غير الله سبحانه وتعالى، وعلى أساس رسالة نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك كأنّ هناك هاتفاً خفياً أو إحساساً انبعث وأرسل في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشعره ذلك الإحساس أنّ مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنّ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذا على اليمن في السنة العاشرة من الهجرة النبوية الشريفة قال النبي لمعاذ فيما قال: “يا معاذ، إنك عسى ألاتلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري”، وبعد أن قال النبي هذا الكلام لمعاذ، ما كان منه إلّا أنْ بكى خشعّاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يَرى رسوله صلى الله عليه وسلّم ثمار دعوته، دعوته التي عانى كثيراً في سبيلها، والتي حدثت فيها العديد من المتاعب لمدّة أكثر من عشرين عاما، فيجتمع في أطراف مكة المكرمة بالعديد من أفراد قبائل العرب وممثليها من زعماءها وساداتها، فيأخذوا من النبي عليه الصلاة والسلام شرائع الدين الإسلامي وأحكامه، ويأخذ النبي منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة كاملة، وبلغ الرسالة تامة، ونصح هذه الأمّة.
وبعد ذلك أعلن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجّة المبرورة المشهودة، فجاء إلى المدينة المنورة العديد والكثير من الناس، كلهم قدموا بقصد أن يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء يوم السبت لأربع بقين من شهر ذي القعدة فقد تجهز النبي محمد صلى الله عليه وسلم للرحيل، فترجّل النبي وأدّهن، وبعد ذلك لبس النبي الكريم إزاره ورداءه وقلّد بدنه، ومن ثم انطلق بعد وقت الظهر، حتى بلغ النبي ذا الحليفة قبل أن يصلي صلاة العصر، صلّاها ركعتين، وبات النبي هناك حتى أصبح، فلمّا أصبح النبي قال لأصحابه الكرام: “أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة”.
وقبل أن يصلي النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الظهر اغتسل لإحرامه، ثم بعد ذلك طيبته سيدتنا عائشة رضي الله عنها بيدها بذريرة (وهو نوع من الطيب) وطيب فيه مسك، وطيب في بدنه ورأسه، حتى أنّه كان وبيص (وبيص تعني بريق) الطيب يرى في مفارقه ولحيته، وبعد ذلك استدامه النبي ولم يقم بغسله، وبعد ذلك لبس إزاره ورداءه، ومن ثم صلى النبي صلاة الظهر ركعتين، ثم أهلّ النبي بالحج والعمرة في مصلاه، وقرن بين الحج والعمرة، وبعد ذلك خرج، فركب القصواء ( “قصواء هي كلمة مأخوذة من قصا البعير والشاة أي قطع من طرف أذنه، وأيضاً معنى كلمة قصواء لغوياً هي الناقة التي أقصاها صاحبها عن العمل والخدمة ولم يرسلها للمرعى وكان ذلك لسمو وعلو مكانتها عنده ولكي تظل وتبقي أمام عينيه لا تغيب عنها حتى يرعاها”)، فأهل النبي أيضاً، ومن ثم أهلّ عندما استقلت به على البيداء.