كشفت غزوة بني المصطلق عن المصائب التي افتعلها المنافقون ، فحدثت عدَّة وقائع وأحداث في تلك الغزوة، ومن تلك الأحداث كانت حادثة الإفك.
قصة حديث الإفك
كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يخرج واحدة من زوجاته معه في كل غزوة، وكانت القرعة تقام بينهم، فكانت القرعة حينها من نصيب أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، وبعد عودة جيش المسلمين من غزوة بني المصطلق، نزل الجيش في بعض المنازل، فخرجت السيدة عائشة رضي الله عنها لقضاء حاجتها، حينها فقدت السيدة عائشة عقداً كانت تلبسه، فعادت تبحث عن ذلك العقد في المكان الذي فقدته فيه، وبعد أن وجدت عقدها جاءت إلى منزل الجيش ولم يكن فيه من مجيب فغلب عليها النوم فنامت.
وكان صفوان بن معطل يسير خلف الجيش يتفقد ضائعه، وعندما وصل إلى المنزل وجد فيه السيدة عائشة وكان قد عرفها لأنَّه قد رآها قبل نزول الحجاب، فقرب راحلته منها فركبتها ولم يكلمها صفوان كلمة واحدة، ثمَّ قادها حتى وصل بها إلى الجيش، وعندها قامة قيامة أهل الإفك وقالوا ما قالوا في السيدة عائشة من كلام لا يصح فيها من تشويه وكلام مغلوط، وكان سبب تلك الفتنة هو المنافق عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين، وعندما قدموا إلى المدينة أصبح أهل الإفك يفيضون في الحديث والنبي لم يتحدث حينها، واجتمع النبي مع الصحابة وأهل البيت يشاورهم في الأمر، وأشار علي بن أبي طالب على النبي أن يفارقها، وأمّا الصحابي أسامة بن زيد فقد أشار إلى النبي بإمساكها وأن لا يهتم لكلام الأعداء.
وأمّا عن السيدة عائشة فقد مرضت شهراً وكان الناس يفيضون في الكلام وهي لا تدري بأي شئ، وكانت عائشة إذا مرضت يحن عليها النبي كثيراً ولكنَّ هذه المرّة لم يعطها النبي نصيباً من الحنية، وكان النبي إذا مرّ بأهل بيته يقول كيف حالكم، ممّا جعل السيدة عائشة في ريب وشك كبير.
السيدة عائشة تعلم بقصة الإفك
وفي ذات ليلة خرجت السيدة عائشة مع أم مسطح للبراز، وأخبرتها أم مسطح بما يجول من أحاديث عنها، وأنكرت رضي الله عنها تلك الحادثة، وعادت السيدة عائشة تستأذن النبي أن تمرض في دار أبيها، فأذن النبي لها، واستعلمت عن الحادثة أيضاً من أمِّها، وبكت كثيراً تلك الليلة ولم تتوقف عن البكاء ولم تذق طعم النوم.
وبينما كانت السيدة عائشة مع أبويها إذ دخل النبي عليهم وقال لعائشة: ( أمّا بعد يا عائشة، فإنَّه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنتِ ألممت بشيء فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنَّ العبد إذا اعترف بذنبه ثمَّ تاب تاب الله عليه )، فقالت السيدة عائشة أنَّها لن تتوب على ذنب لم تفعله وأنّه مهما قالت لن يصدقها أحد بعد ما صدقوا كلام الناس وأنَّها لن تقول إلّا كما قال سيدنا يعقوب والد سيدنا يوسف عليهما السلام: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ).
براءة السيدة عائشة
وبعد ذلك نزلت البراءة من الله سبحانه وتعالى ببراءة السيدة عائشة الصديقية حيث قال عز وجل في محكم كتابه الكريم: ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ** لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ** لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ** وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ** إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ** وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ** يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ** وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ** إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ** وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ** يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ).
وبعد أن نزلت هذه الآيات التي أقرت ببراءة السيدة عائشة رضي الله عنها، كان النبي في غاية السرور وكان يضحك، وعندها قال للسيدة عائشة ( يا عائشة أما الله فقد برأك)، حينها طلبت منها أمها أن تشكر النبي، فردّت عائشة بأنَّها لن تشكر إلّا الله الذي برأها.
وبعد انكشاف الأمور أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد كل من صرَّح بالإفك ثمانين جلدة، وهي حد القذف، وكان الذين جلدوا هم ثلاثة: حسان بن ثابت، مسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش.
وكان سيدنا أبو بكر الصديق ينفق على مسطح بن أثاثة لأنَّه كان من قرابته، وعندها قطع عنه النفقة، وبذلك أنزل الله سبحانه وتعالى آيات فقال عز وجل: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )،فأعاد النفقة على مسطح.