فضل الاعتكاف وأحكامه

اقرأ في هذا المقال


الاعتكاف:

الاعتكاف: هو لزوم المسجد بنيَّةٍ مَخصوصة لطاعة الله تعالى، وهو مشروع مُستحب باتّفاق أهل العلم، فقال الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو داود:(لا أعلم عن أحد من العلماء إلَّا أنه مُسنون).

والاعتكاف الأعظم: هو عُكوف القلب على الله تعالى والإقبال عليه، والخلوة به، والانقِطاع عن الاشتغال بالخَلق، والاشتِغال به وحدَه ــ سبحانه وتعالى ــ حيث يَصِير ذكرُه وحبُّهُ والإقبال عليهِ في محلِّ هموم القلب وخَطراته، فيستَولِي عليهِ بدلاً منها، ويَصِير الهمُّ كلُّه بهِ، والخطرات كلُّها بذكرهِ، والتفكر في تحصيل مراضيهِ وما يقرِِّب منهُ، فيَصِير أُنسُهُ بالله بدلاً عن أنسِهُ بالخَلق، فيعُدُّه بذلك لأُنسِهِ بهِ يوم الوحشة في القبور يوم لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه.

وقال الزهري رحمه الله :”عجباً للمسلمين! تركوا الاعتكاف، مع أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ ما تركهُ منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل”.

الجمع بين الصوم والاعتكاف:

لا ريب أنَّ اجتماع أسباب تربية القلب بالإعراض عن الصوارف للطَّاعة، دعوة للإقبال على الله تعالى والتوجُّه إليهِ بانقطاع وإخبات، ولذلك استحبَّ السلفُ الجمع بين الصيام والاعتكاف، حتى قال الإمام ابن القيم رحمه الله:( ولم ينقل عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أنَّه اعتكف مفطراً قط، بل قالت عائشة:( لا اعتكاف إلَّا بصوم) “أخرجه أبو داود”.

ولم يذكرِ الله ــ سبحانه وتعالى ــ الاعتكاف إلَّا مع الصوم، ولا فعلهُ رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ إلَّا مع الصوم .

واشتراط الصوم في الاعتكاف نقلٌ عن ابن عمر وابن عباس، وبهِ قال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة، واختلف النقل في ذلك عن أحمد والشافعي.

فالقول الراجح في الدليل الذي عليهِ جمهور السلف:(أنَّ الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجِّحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ) زاد المعاد .

واشتراط الصوم في الاعتكاف نقل عن ابن عمر وابن عباس، وبهِ قال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة، واختلف النقل في ذلك عن أحمد والشافعي .

وأما قول الإمام ابن القيم ــ رحمه الله ــ:(ولم ينقل عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أنَّه اعتكف مفطراً قط ) ففيهِ بعض النظر، فقد نقل أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ اعتكف في شوال” رواه البخاري ومسلم”.
ولم يثبت أنه كان صائماً في هذه الأيام التي اعتكافها، ولا أنَّهُ كان مفطراً.

فالأصح أنَّ الصوم مُستحبٌّ للمعتكفِ ، وليس شرطاً لصحَّته.

ومع أنّ النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ في معتكفه: اعتكف ــ عليه الصلاة والسلام ــ في أول عشر أيام من رمضان، ثم العشر الأواسط، يلتمس ليلة القدر، ثم تبيّن لهُ أنَّها في العشر الأواخر فداوم على اعتكافها.

فعن أبي سعيد الخدري ــ رضي الله عنهُ ــ قال : كان رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ يجاور في العشر التي وسط الشهر، فإذا كان من حين تمضي عشرون ليلة، ويستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، ثم إنه أقام في شهر، جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم بما شاء الله، ثم قال:( إنّي كنت أجاور هذه العشر، ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليبت في مُعتكفه، وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، في كلِّ وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين ) .

قال أبو سعيد: مطرنا ليلة إحدى وعشرين، فوقف الناس في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظرت إليهِ، وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتلٌّ ماءً وطيناً فتحقَّق ما أخبر بهِ ــ صلى الله عليه وسلم ــ وهذا من علامات نبوّته .

ثم حافظ ــ صلى الله عليه وسلم ــ على الاعتكاف في العشر الأواخر، كما في الصحيحين من حديث عائشة ــ رضي الله عنهاــ أنَّ النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاهُ الله عز وجل ثمَّ اعتكف أزواجه من بعدهِ “رواه البخاري ومسلم”.

ما هي الفوائد والثمرات المترتبة على الاعتكاف:

1- تربية النفس على الإخلاص في العبادة، وترك الرياء جملة؛ لأن المعتكف يعبد الله في معتكفه خاليًا لا يراه من الناس إلَّا القلَّة، وقد لا يراه أحد؛ فيكون هذا أدعى إلى إخلاصه في عبادته، والتخلُّص من آفة الرياء.
2- التخفيف من ضغوط الحياة؛ فإن من فوائد الاعتكاف أنه خلوة علاجية، يهدئ فيها المعتكف من روعه، ويتخفف من ضغوط حياته ومشاغله، ويقلّل من انفعالاته الضارة، وهو ما يؤكده بعض الأطباء.
3- التربية على التخلص من فضول الكلام والثَّرثرة، وفضول النوم، وفضول الطعام والشراب، وكثرة الخلطة؛ لأن كلَّ ذلك مكروه للمُعتكِف.
4- الإقبال على العبادة وتعويد النفس عليها؛ بما أنَّ المُعتكِف منقطع للعبادة بصورها المختلفة، ومتفرغ للقيام بها كل التفرغ.
5- تقوية الصلة بالله سبحانه؛ بما أنَّ المُعتكِف يناجي الله سبحانه ويدعوه، ويتأمَّل في خلقه، ويعبده بإقبال قلب وفراغ نفس.
6- استثمار الوقت فيما يرجع على الإنسان بالنفع العميم في الدارين، وتعويد الإنسان على عدم إضاعة الوقت فيما لا طائل تحته؛ لأنَّ المعتكِف المنقطع لله سبحانه ولعبادته، مستثمر لوقته أفضل أنواع الاستثمار، ومحرز لوقتهِ عن تضييعه فيما لا يفيد ولا يجدي.
7- تربية النفس على تحمُّل الشدائد، والصبر على الطاعة، والخشونة في العيش؛ لما قلناه من أن المعتكف يُكره له الترفه والتعطر، ولبس فخيم الثياب. ويستحب له الإكثار من العبادات بألوانها المختلفة، والصبر على أدائها، والقيام بكلفتها.
8- الابتعاد عن الشواغل والصوارف التي تشغل الإنسان عن العبادة، وتصرفه عنها، وتجعله كالمستهلك في المعاش وتحصيل أسبابه.
9- التعود على استعمال العقل استعمالاً مفيدًا؛ وذلك حين يقوم المعتكف بعبادة التفكُّر في ملكوت الله سبحانه، والتأمُّل في مخلوقاته، وإدراك عظمته وربوبيته.
10- طرح مادية الحياة، والاسترواح إلى نفحات الإيمان ومباهج الأنس بالله ومسرَّات الخلوة به؛ فهذا -ولا شك- من أعظم فوائد الاعتكاف وثمراته. وإذا كان مسوِّغ الناس في الانصراف عن إحياء سنة الاعتكاف الميتة كثرة مشاغلهم وأعمالهم الدنيوية، فإنَّ هذا -في الصحيح- ينبغي أن يكون مسوغ انصرافهم إليه، لا انصرافهم عنه؛ لأن الإنسان بقدر استغراقه في الدنيا وماديتها، يكون احتياجه إلى ما يدفع عنه ضرر ذلك من الروحانيات والصفاء والاشتغال بأمر الآخرة. بل إنَّ من العجيب أنَّ الإنسان اليوم إذا كثرت أعماله ومشاغله فإنه يتحرَّى أن يفرِّغ نفسه مدَّة من الزمن لقضاء عطلة يروِّح فيها عن نفسه.. فلا أدري كيف يفرغ نفسه للعطلة من الدنيا، ولا يفرغ نفسه للعطلة من الدنيا فيما وراءها من أمر الآخرة.
11- ترك المعاصي أو التقليل منها؛ وذلك بأن يكون المعتكف منقطعًا إلى الله سبحانه، منكفًّا عن مقارفة ما قد يقارفه من المعاصي في معاشه؛ فإنَّ العبد لا يخلو عن مقارفة شيء من المعاصي في حياته ومعاشه، ولو من نحو الغيبة والنميمة ومشاهدة ما لا تجوز مشاهدته من المسلسلات والأفلام، وغير ذلك ممّا استهان الناس فيه وهو محرم.
12- إدراك ليلة القدر والتعرُّض لنفحات الله فيها؛ فإنَّ من فائدة تخصيصها لعشر الأواخر من رمضان بالاعتكاف، وكون الاعتكاف فيها لذلك سُنَّة مؤكدة، أن تلك العشر الأواخر هي مظنة ليلة القدر؛ لقوله: التمسوها في العشر الأواخر، في الوتر، بل إنَّ النبي ــ صلّى الله عليه وسلم ــ اعتكف مرَّة شهر رمضان كله؛ التماسًا لليلة القدر قبل أن يوحى إليه أنها في العشر الأخير، وذلك حديث أبي سعيد الخدري ــ رضي الله عنه ــ، أنَّ النبي ــ صلّى الله عليه وسلم ــ:(اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم أَطْلَعَ رأسه فكلَّم الناس فدنوا منه، فقال: إنِّي اعتكفتُ العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفتُ العشر الأوسط، ثم أتيتُ فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحبَّ منكم أن يعتكف فليعتكف. فاعتكف الناس معه).
وبالجملة فإذا كان المُعتكِف يقضي مدَّة اعتكافه في الذكر والدعاء والصلاة ونحو ذلك، فقد أدرك من ليلة القدر مغانمها وتعرَّض لنفحات الله فيها، وأصاب منها ما أصاب، وهذا من أعظم الفوائد، وأبلغ الثمرات.
13- إحياء سنة ميتة، مع ما في إحياء السنن الميتة من الأجر والمثوبة؛ فإن الاعتكاف -وبخاصة في الماضي القريب- كان نادرًا لا يفعله إلا كبار السن، وهو اليوم قليل وإن لم يكن نادرًا.
بل إن الإمام الزهري تعجب من ترك المسلمين للاعتكاف في زمنهِ في القرن الخامس الهجري، وذلك قوله ــ رحمه الله ــ: “عجبًا للمسلمين! تركوا الاعتكاف مع أنَّ النبي ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله”.
14- تحصيل الكرامة عند الله سبحانه: بمجاورته، وزيارة بيته، والإقامة فيه مدة؛ فإن المُعتكِف مجاور لله سبحانه، وهو في اعتكافه في المسجد الذي لا يصح الاعتكاف إلّا فيه زائر لبيت الله سبحانه وضيفٌ عليه، وقد قال:حقٌّ على المزور أن يكرمَ زائره.

كما أنَّ المُعتكِف قد جعل المسجد بيته باعتكافه فيه، وقد قال: إنَّ الله ضمن لمن كانت المساجد بيته، الأمن والجواز على الصراط يوم القيامة.



شارك المقالة: