كتابة القرآن الكريم في عهد عثمان رضي الله عنه

اقرأ في هذا المقال


يمكننا بكل موضوعية أن نعتبر الجمع القرآني في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه هو (جمع النشر والتدوين) وبهذا يكون القرآن الكريم قد جمع عدة لمرات ثلاث، وفي مرة كان الجمع يتم في ظروف خاصة ليحقق أهدافاً خاصة إتماماً وتوثيقاً لجمعه وحفظه، فكانت الصحف النبوية للقرآن الكريم، هي بمثابة (جمع الوحي) أو بمثابة (الأصول) التي تلقاها النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن الله سبحانه وتعالى، وبها تأصل القرآن كتابة، بجانب تأصله استظهاراً، وحفظاً في الصدور، وكانت صحف القرآن الكريم.
على عهد الخليفة أبي بكر هي بمثابة ( الوثائق) التي تحقق حفظ القرآن الكريم، كوثائق يسهل الرجوع إليها، وهي بين دفتين، وكانت الصحف القرآنية على عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه، هي المرحلة الأخيرة، في تدوين القرآن الكريم، وأصبحت تأخذ اصطلاحاً وهو (المصحف)، وبها تحقق النشر والانتشار، وصدق الله العظيم القائل: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ﴾ صدق الله العظيم[الحجر ٩].

السبب في نسخ المصاحف على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:

تقتضي حكمة الله تعالى دائماً أن يجعل سبحانه وتعالى للمسببات أسباباً، وأن يجعل للأفعال دوافع وغايات، وهذه من سنن الله في أفعال العباد، ولقد أراد الله سبحانه وتعالى وبمقتضى علمه وحكمته، وتحقيقاً لإرادته ووعده أن يحفظ كتابه العزيز (القرآن الكريم)، فهيأ الأسباب التي تدفع خيرة المسلمين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقوموا بما يحقق ذلك الحفظ، فلما استحر القتل في حفظة القرآن من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقعة اليمامة عام اثنى عشر للهجرة، وفيها دارت رحى الحرب بين المسلمين، وأتباع مسليمة الكذاب، شرح الله صدر أبي بكر، وعمر، وطائفة من الصحابةـ إلى تدوين القرآن، فكانت كتابته في عهد الخليفة أبي بكر في (نسخة وثائقية) يسهل الرجوع إليها.

وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، كان الصحابة قد تفرقوا في الأمصار – إثر دخول الإسلام إلى كثير من الأقطار- يعلمون الناس القرآن، ويفقهونهم في الدين، وكان كل منهم يقرى الناس بالقراءة، التي تلقى بها من النبي صلى الله عليه وسلم حيث إن القرآن تنزل على سبعة أحرف، واتبع أهل كل مصر الطريقة التي تلقوا بها عن الصحابي الذي نزل بمصرهم: فأهل الشام يقرأون بقراءة أبي بن كعب، وأهل الكوفة يقرأون بقراءة عبدالله بن مسعود، وغيرهم يقرأ بقراءة أبي موسى الأشعري وهكذا.
فلما بدأت الأمة الإسلامية تتسع وكان ذلك ( في السنة الثانية أو الثالثة على اختلاف الروايات) من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، سنة خمس وعشرين من الهجرة اجتمع أهل الشام، وأهل العراق في غزوة أرمينية، وأذربيجان، وكان فيمن غزاها مع أهل العراق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فرأي كثرة اختلاف المسلمين في وجوه القراءة، وسمع ما كانت تنطلق به ألسنتهم من كلمات التجريح، والتأثيم حين اختلافهم في أوجه القراءة، فاستعظم ذلك حذيفه وأكبره، ففزع إلى عثمان خليفة المسلمين رضي الله عنه، وأخبره بالذي رأى، وقد أفزع ذلك بعض الصحابة، وخشي سوء العاقبة إذا تمادى فيما هم فيه.

 قال السفاريني في غذاء الألباب:قال السيوطي في مجمع اللغات: أول من جمع القرآن وسماه مصحفاً أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأول من جمع اللغات في القرآن الشريف على لغة واحدة بلغة قريش -عند ظهور الاختلاف في اللغات- عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال في موقع آخر: اختلفت الناس في قراءة، قال أنس رضي الله عنه: اجتمع القراء في زمن عثمان رضي الله عنه من أذربيجان وأرمينية والشام والعراق، واختلفوا حتى كاد أن يكون بينهم فتنة، وسبب الخلاف حفظ كل منهم من مصاحف انتشرت في خلال ذلك في الآفاق كتبت عن الصحابة، كمصحف ابن مسعود، ومصحف أبي بن كعب، ومصحف عائشة. انتهى.

خطوات التنفيذ وقواعد كتابة المصحف:

روى البخاري عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان، قدم على عثمان رضي الله عنهم وكان يغازي أهل الشأم في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: “يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك .فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف “، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف، أن يحرق”.

لقد رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه بثاقب فكره- بعد أن عرض الأمر على أعلام الصحابة – أن يكون للمسلمين مصاحف برجعون إليها، تحمل الأحرف السبعة حسب ما موقوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووارد بالصحف البكرية المنقولة عن صحف القرآن النبوية التي كانت محفوظة عند أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها بعد وفاة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.

وشرع عثمان بتنفيذ القرار الحكيم حوالي أواخر عام أربعة وعشرين هجرية حسب الآتي:

  • أرسل عثمان رضي الله عنه إلى المؤمنين حفصة رضي الله عنها، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، ففعلت ذلك.
  • عهد عثمان رضي الله عنه في نسخ المصاحف إلى أربعة من خيرة صحابة رسول الله وكبار الثقات وهم: زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم، وكان زيد على رأس الذين أختارهم عثمان لنسخ القرآن، لأنه هو الذي نقل القرآن من الصحف في عهد أبي بكر الصديق، ولأنه كان أشهر كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وأكثرهم اهتماماً.
  • كان نسخ المصاحف تحت إشراف سيدنا عثمان رضي الله عنه، ومعه أعلام الصحابة من المهاجرين والأنصار.
  • كتبوا الكثير من المصاحف، وقصدوا وفيها الأحرف السبعة التي نزل عليها كتاب الله تعالى، وقد كانت خالية من الشكل والنقاط تحقيقاً لهذا الغرض، فالكلمات التي اشتملت على أكثر من قراءة وخلوها من النقط يجعلها محتملة لما اشتملت عليه من قراءة، كتبوها برسم واحد في جميع وذلك نحو قوله تعالى (فتبينوا) الحجرات.
    أما الكلمات التي وردت على قراءتين أو أكثر، وتجريدها من النقط والشكل لا يجعلها محتملة لما ورد فيها من القراءات لم يكتبوها برسم واحد في جميع المصاحف، وإنما كتبوها في بعض المصاحف برسم يدل على  قراءة، وفي بعضها يرسم آخر يدل على القراءة الأخرى نحو ( وأوصى بها إبراهيم) في سورة البقرة ومن غير ألف بينهما ( ووصى بها إبراهيم)، وإنما لم يكتبوا هذا النوع من الكلمات برسمين معاً في مصحف واحد، خشية أن يتوهم أن اللفظ نزل مكرراً بقراءة واحدة.

وأصح الأقوال عن عدد المصاحف التي أمر عثمان رضي الله عنه بتدوينها، أنها ستة (مصحف مدينة الكوفة وللبصرة، وثالث للشام، ورابع مكة المكرمة، وخامس للمدينة، وسادس حبسه عثمان لنفسه وهو المدني الخاتص، ويسمى مصحف الإمام).

موقف المسلمين من المصحف العثماني:

عندما أمر عثمان رضي الله بأن تنسخ المصاحف كما ذكرنا من قبل، موقف الصحابة جميعاً موقفهم المؤازرة والمناصرة والموافقة، واستجابوا لندائه فاجتمعوا على (المصحف الإمام) وتخلصوا من كافة الصحف الخاصة، التي كانت لدى بعضهم، تماماً كما يفعل المسلمون باستبدال بعض نسخ المصاحف بما هو أكثر إتقاناً في الشكل، والطباعة، والخلو من الطباعة، وكانت نتيجة هذه الاستجابة السريعة واضحة في سرعة انتشار المصاحف العثمانية بالأقاليم، التي أرسلت إليها المصاحف، فقد أقبل عليها المسلمون، ووقفوا منها موقف القبول والإكبار، لأنهم علموا أن نسخ هذه المصحف كان عن إجماع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد كان سيدنا عثمان رضي الله عنه، ذو حكمة وتوفيق من الله تعالى، عندما أرسل إلى الأمصار مع كل مصحف، إماماً عدلاً ضابطاً، تكون قراءته موافقه لما في المصحف الذي أرسل إلى كل مصر، إيماناً منه بأن القرآن الكريم إنما يعتمد على التلقي والأخذ من أفواه الشيوخ خلفاً عن سلف، وثقة عن ثقة، وإماماً عن إمام.


شارك المقالة: