كيفية ظهور الخشوع في الصلاة من إقامتها؟

اقرأ في هذا المقال


ظهور الخشوع في الصلاة من إقامتها:

لا شكّ أن الخشوع في الصلاةِ من إقامتها، فإنّ إقامة الصلاة لا تكون إلا بإقامةِ: شروطها، وأركانها وواجباتها، والخشوعُ واجبٌ على الصحيح؛ وذلك لأمر الله ورسولهِ عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال تعالى: “وأقيمُوا الصّلاة” البقرة:43. فأمرنا بإقامتها، أي بمعنى الإتيانِ بها قائمةً تامةَ القيام والركوع والسجودِ والأذكار، وقد علّق الله تعالى الفلاح بخشوعِ المُصلّي في صلاتهِ، فمن فاتهُ خشوع الصلاةِ لم يكن من أهل الفلاح، ويستحيلُ حصول الخشوع مع العجلةِ والنقر قطعاً؛ بل لا يحصل الخشوع فقط إلا مع الطمأنينة، وكلما زاد طمأنينةً، فقد ازدادَ خشوعاً، وكلما قلّ خشوعهُ اشتدت عجَلتهُ، حتى تصير حركة يديهِ بمنزلة العبث الذي لا يصحبه خشوع، ولا إقبال على العبودية، ولا معرفة حقيقة العبودية.
والله سبحانه قد قال: “وأقيموا الصلاة” البقرة:43. وقال تعالى أيضاً: “الذينَ يُقِيمُون الصلاةَ” المائدة:55. وقال تعالى: “وأقِمِ الصّلاة” هود:114. وقال تعالى أيضاً: “فإذا اطمأننتُم فأقيموا الصّلاة” النساء:103. وقال أيضاً: “والمُقيمينَ الصّلاةَ” النساء:162. وقال إبراهيم عليه السلام: “رَبّ اجعلني مُقيم الصّلاة”. إبراهيم:40. وقال لموسى عليه السلام: “فاعبُدني وأقمِ الصلاةَ لِذكري” طه:14. فلن تجدَ ذكر الصلاة في موضعِ التنزيلِ إلّا مقروناً بإقامتها، فالمُصلّون في الناسِ قليل، ومقيم الصلاةِ منهم أقلُ القليل، كما قال عمر رضي الله عنه: الحاج قليل والركب كثير.
إن العاملونَ يعملونَ الأعمالَ المأمورِ بها على الترويجِ تحلذةَ القسم، ويقولون: يكفينا أدنى ما يقع عليه الاسم، ويا ليتنا نأتي بهِ، ولو علمَ هؤلاءِ أنّ الملائكةُ تصعدُ بصلاتهم فتعرضها غلى ربّهم بمنزلة الهدايا التي يتقربُ بها الناس إلى ملوكهم وكُبرائِهم، فليس من عَمدَ إلى أفضل ما يقدرُ عليه، فيُزينهُ ويُحسّنه ما استطاع، ثم يتقربُ بهِ إلى من يرجوه ويخافه، كمن يعمد إلى أسقط ما عنده وأهونه عليه، فيستريحُ منه، ويبعثهُ إلى من لا يقع عندهُ بموقع.
وليسَ من كانت الصلاةُ ربيعاً لقلبهِ، وحياةً له، وراحةً وقرةً لعينهِ وجلاءً لحُزنهِ، وذهاباً لهمهِ وغمهِ ومُفزعاً له إليه من نوائبهُ ونوازلهُ، كمن هي سحت لقلبهِ، وقيداً لجوارحهِ، وتكليفً له وثِقلٌ عليه، فهي كبيرة على هذا وقُرةُ عينٍ وراحةٌ لذلك.

النظر في الآية الكريمة “وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ“:

قال الله تعالى في كتابهِ الكريم: “وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَالَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ” البقة:45-46. إنّ دلالة هذه الآيات الكريمة إنما كبرت على غيرِ هؤلاءِ لخلوّ قلوبهم من محبّة الله تعالى وتكبيره وتعظيمهِ والخشوع له، وقلّة رغبتهم فيه؛ فإنّ حضور العبد في الصلاةِ وخشوعهِ فيها وتكميلهُ لها واستفراغهُ وسعهُ في إقامتها، وإتمامها على قدرِ رغبتهِ في الله تعالى.
وهنا أيضاً عجيبةٌ تحصلُ لمن تفقه قلبهُ في معاني القرآن من عجائبِ الأسماءِ والصفاتِ، وخالط بشاشة الإيمانِ بها قلبهُ؛ بحيث يرى أنّ لكلِ اسمٍ وصفةً موضعاً في صلاتهِ، ومحلّاً منها، فإنهُ إذا انتصبَ قائماً بين يدي الرب تبارك وتعالى شاهد بقلبهِ فيّوميّتهُ، وإذا قال: “اللهُ أكبر” شاهدَ كبرياءهُ وإنّ قال: “سبحانك اللهمَ وبحمدِك وتباركَ اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك” فقد شاهدَ بقلبهِ ربّاً مُنزهاً عن كلِ عيبٍ سالماً من كلِ نقصٍ ومحموداً بكلِ بكلِ حمدٍ، فحمدهُ يتضمنُ وصفهُ بكلِ كمالٍ، وذلك يستلزم براءتهُ من كل نقصٍ، تبارك اسمهُ، فلا يُذكر على قليلٍ إلّا كثّرهُ، وعلى خيرٍ إلّا أنماهُ، وبارك فيه، ولا على آفةٍ إلّا أذهبها، ولا على شيطانٍ إلّا ردّه خاسئاً داحراً، وكمالُ الاسم من كمالِ مُسماهُ، فإذا كان شأن اسمه الذي لا يضرُ معه شيء في الأرض ولا في السماء، فشأنُ المُسمى أعلى وأجل، وتعالى جدهُ أي ارتفعت عظمتهُ، وجلت فوق كلّ عظمةٍ وعلا شأنهُ على كلّ شأن، وقهر سلطانهُ على كل سلطان، فتعالى جدّه أنّ يكون معهُ شريكٌ في مُلكهِ وربوبيتهِ، أو في إلهيتهِ أو في أفعالهِ أو في صفاتهِ، كما قال مؤمنُ الجنّ: “وأنّهُ تَعَالى جَدُّ رَبّنا ما اتخذَ صاحبةً ولا وَلَدا” الجن: 3. فكم في هذه الكلمات من تجلّ لحقائق الأسماءِ والصفاتِ على قلب العارف بها غير المُعطّل لحقائقها. وإذا قال: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”فقد أوى إلى ركنه الشديد، واعتصم بحوله وقوته من عدوة الذي يريد أن يقطعه عن ربه، ويبعده عن قربة؛ ليكون أسوأ حالاً.


شارك المقالة: