أولاً- اللسان العربي:
إن اختيار لغة العرب لكي ينزل بها آخر الكتب السماوية من الله تعالى للإنسان، على تعدد لغات البشر واختلاف ألسنتهم، يشير إلى فضيلة بيانية جامعة امتاز بها اللسان العربي على كل لسان، وبخاصة إذا ذكرنا أن إعجاز القرآن أو معجزة النبي الكبرى – صلوات ربي وسلامه عليه – جاءت متعلقة لهذا البيان ومتصلة به، بل كانت في حقيقة الأمر من جنسه، لأن الإعجاز الذي جاء في القرآن الكريم مقروناً بالتحدي أو ثمرة له
وفي ذلك يقول الأديب العربي عباس محمود العقاد: قول العقاد إن اللغة العربية وصفت قديمًا وحديثًا بأنها لغة شعرية، وإن الذين يصفونها بهذه الصفة يقصدون بها أنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، وإنها لغة مقبولة في السمع يستريح إليها السامع، كما يستريح إلى النظم المرتل والكلم الموزون، كما يقصدون بها أنها لغة يتلاقى فيها تعبير الحقيقة، وتعبير المجاز على نحو لا يعهد له نظير في سائر اللغات.
وقد وصف الأديب العقاد أن لغة القرآن الكريم ، بأنها لغة (شاعرة) يقلبها السمع ويتقبلها السامع، كما تمتاز عن باقي اللغات بحروف تكفي المخارج الصوتية، وتستخدم جهاز النطق أحسن استخدام، فتنفرد بحروف لا توجد في أبجدية سواها كالذال والضاد والظاء، ولا يتسع المجال هنا لتخليص كل ما قاله العقاد، وحسبنا أن نلاحظ في تركيب المفردات من الحروف أن الوزن هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام في اللغة العربية.
كما تكفي هذه العبارات لكي نعرف السبب الذي نزل القرآن الكريم من أجله بلغة العرب، فاللسان العربي المبين أو بوصفه لساناً مبيناً، هو أوفر الألسنة – التي وزعها الله تعالى على الشعوب والأقوام – حظاً لينزل به كتاب الله تعالى المعجز بلفظه ومعناه جميعاً؛ قال تعالى في سورة الأحقاف ﴿وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِمَامࣰا وَرَحۡمَةࣰۚ وَهَـٰذَا كِتَـٰبࣱ مُّصَدِّقࣱ لِّسَانًا عَرَبِیࣰّا لِّیُنذِرَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [الأحقاف ١٢].
ثانياً- العرب والقرآن:
لقد نزل القرآن الكريم في العرب وبلغتهم، وبُعث النبي العربي الهاشمي القرشي – صلوات ربي وسلامه عليه – بين ظهرانيهم، وأطل العرب بهذا الكريم على العالم رسالة إنسانية ورحمة للعالمين، دورهم فيه دور النبليغ والهداية والجهاد، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، لا دور المدلّ بعصبية أو عنصرية، بل دور التكليف الأشد والجهاد الأفضل، لأن مزايا الإنسانية تكليف وأعباء لا متع وأزياء.
قال الله تعالى في سورة الزخرف مخاطباً نبيه الكريم:﴿فَٱسۡتَمۡسِكۡ بِٱلَّذِیۤ أُوحِیَ إِلَیۡكَۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ (٤٣) وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرࣱ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ وَسَوۡفَ تُسۡـَٔلُونَ (٤٤)﴾ صدق الله العظيم [الزخرف ٤٣-٤٤] قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: ي: خذ بالقرآن المنزل على قلبك، فإنه هو الحق، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم، ثم قال: ﴿وإنه لذكر لك ولقومك﴾ قيل: معناه لشرف لك ولقومك، قاله ابن عباس.
ولا بد من التنوية إلى قضية وهي، أن الله لم ينوع بين الأمم والشعوب، ولم يكن هناك تميز بين بعضها عن بعض بميزات أدبية أو عقلية أو علمية إلا لتكمل البشرية بعضها بعضاً لا ليفخر بعضها بذلك على بعض، لأن الفخر بمثل هذه الأمور الفطرية التي لا حيلة للإنسان بها في كسبها أو دفعها كاللون أو الجنس، لا يعدو أن يكون طوراً من أطوار الطفولة، ولكن يجب على البشرية أن تتجاوز تلك المراحل من حين نزل قوله تعالى ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾ [الحجرات ١٣]، لأن هذه الآية الكريمة تشير إلى ميزان التفاضل الحقيقي، وأنه ينبع من الأعمال الكسبية.
فخلاصة الكلام، أن الاختيار الإلهي للعرب، – قوماً ولساناً- لينزل القرآن الكريم بلغتهم، وليكلَّفوا بحمل أعباء الرسالة إلى العالمين، يتسق وينسجم تماماً مع الطابع الإنساني لهذه الرسالة، ويدل أيضاَ: لأننا حين أمعنا النظر في لغة العرب وجدنا أنفسنا أمام لغة إنسانية، ووجدنا جملة الملكات والخصائص النفسية والعقلية التي تؤهل أصحابها للنهوض بتبعات التكليف بأحكام الإسلام على نحو شامل ومتوازن.