لقاء يوسف عليه السلام بإخوته

اقرأ في هذا المقال


لقاء يوسف عليه السلام بإخوته:

إخوة يوسف وهم الذين كرهوه وحقدوا عليه وألقوه في غياهب الجب، فمنذ أن ألقوه في الجب لم نعرف ماذا فعلوا، يقول الله تعالى: “وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ” يوسف:58. فقد جاء إخوة يوسف وهم عُصبةً يتحركون مع بعضهم، وقد جاءوا لطلب القوتِ؛ لأنها حلّت بهم المجاعة ولم يجدوا طعاماً إلى في خزائن يوسف عليه السلام، ولا يُصرف القمحُ للناسِ إلا بأمرٍ منه، فقد عرفهم يوسف؛ لأنهم لم يتغيروا، ولكنهم لم يعرفوه لماذا؟ لأنه كان صغيراً عندما تخلصوا منه، والآن هو رجلاً كبيراً وأصبح مسؤلاً عن خزائن الأرض، فكان هذه تُعطيه هيبةً، أما إخوته فقد أصبحوا كباراً وملامحهم لم تتغير، لكن هو الذي تغير؛ لأنه أصبح عزيز مصر يعيشُ في قصرٍ مُحاط بأشياء كثيرةٍ لا تُمكنهم من معرفتهِ، بالإضافةِ إلى أنهم كانوا مكروين، فلم يُدققوا فيه، فقد جاءوا لطلب الطعام، وكان هذا كل همهم ليحفظوا حياتهم وحياة أهليهم، كما أنهم لم يتوقعوا أن يكون يوسف هو عزيز تلك البلاد ومسؤولاً عن خزائنها.
لماذا جاءوا إخوة يوسف؟ فيقول: “وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ“يوسف:59. وهكذا أسلوب القرآن الكريم، لا يذكر الخطوات التي يمكن للعقل أن يصل إليها بالبديهة، ولذلك لم يقل لنا: إنهم جاءوا لطلب الكعام، وقالوا له: إننا نحتاج إلى طعام، وأن عددنا كذا، وأنه أمر بإعطائهم ما يريدون، وإنما قال: “وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ” والباقي يمكن أن يستنتجه العقل بسهولة. فهذه لفتةً تُعطينا ما كان فيه إخوة يوسف من اضطراب عقلي؛ لأنهم كانوا يريدون الحصول على طعام، ولم يكن تفكيرهم إلّا في هذا الطعام. ذلك أن يوسف قال لهم: “ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ” وكان العقل يقتضي أن يقولوا: من الذي أعلمه أن لنا أخاً من أبينا؟ لم ينتبهوا إلى هذا؛ لأن المجاعة والحصول على الطعام كان هو الهم الأكبر لجميع الناس. فقال تعالى: “وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ” هو ما جاءوا من أجله، لينقلوه من مكانٍ إلى مكان، أي القمح، وهذا هو الأمر الذي استدعى مجيئهم إلى مصر من أجل الحصول عليه.
قال يوسف عليه السلام: “أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ” لأن كل واحد جاء على بعير، والبعير موضوع عليه الثمن، يحمل القمح ويترك الأثمان، سواء كانت على هيئة أقمشةٍ أو غير ذلك، “أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ” أي أعطيتكم حقكم في الكيل وزيادة، ولو جئتم بأخيكم من أبيكم، فسأزيدُ لكم في الكيل، ولذلك قالوا وهم يساومون أباهم على أخذ أخيهم، قالوا، “وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ” هنا يوسف يُحاول أن يُغريهم حتى يأتوا بأخيه. وقوله تعالى: “وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ” المُنزل في ظاهر الأمر عكس المعلي، ولكن هنا معناها الذي ينزل المكان، ويكون المكان مُعدّاً له إعداداً فيه كل متطلبات الحياة، ولذلك يسمون الفنادق بالنُزل.
إن قوله تعالى: “وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ” فهنا إخبارٌ يؤكد أن إخوة يوسف هم الذين نزلوا عنده، وأن الله سبحانه وتعالى قد جعلهم يأتون وينزلون عنده، ليقول لهم أحضروا إليّ أخاكم من أبيكم، ثم يتبع ذلك بقوله: “فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ” يوسف:60، فالوقت هو وقت مجاعة وجدب وقحط، ومثل هذا الإنذار يجعلهم يحاولون أن يأتوا بأخيهم بأي طريقةٍ؛ لأن يوسف لو نفذ تهديده، ومنع عنهم الكيل فسيواجهون الموت جوعاً. قال لهم يوسف عليه السلام: إن لم تأتوني بأخيكم من أبيكم، فلا يوجد لكم كيلٌ عندي، ولا تقربوا هذه الناحية أبداً لتحصلوا على طعام.

ما هي ردة فعل إخوة يوسف من طلب العزيز:

إن مسألة طلب العزيز لأخيه الشقيق مسألةً ليست سهله بالنسبة للأخوة، فقد خيّرهم بأن يأتي بأخيهم أو لا يأخذون الكيل، وهم يعرفون أن أباهم لن يثق فيهم بعدما فعلوه بيوسف حتى يُسلمهم أخاه الصغير، لذلك قالوا كما يقصُ علينا القرآن الكريم:قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ” يوسف:61. “سنراود” أي سنتفاهم مع أبينا؛ لأن هذه المسألة صعبة، والمراودة هي أخذ ورد، أنت تقول وهو يرد عليك، ثم ترد عليه. قوله تعالى: “وإنّا لفاعِلون” يعني سنذهب ونحضرهُ معنا.
ماذا فعل يوسف: “وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” يوسف:62 البضاعة هي ما جاءوا به ثمناً للقمح، يوسف قال لرجاله: أعطوهم القمح، وأعيدوا إليهم الأثمان التي أتوا بها وضعوها في رحالهم بحيث لا يرونها، إلّا إذا عادوا إلى دار أبيهم، ولماذا يضعُ البضاعة؟ “لعلهم يرجعون” أي لعلهم يعودون مرةً أخرى، ليردوا ثمن ما أخذوه، فما الذي فعلوه إخوة يوسف عندما عادوا إلى أبيهم من مصر. قال تعالى: “فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ” يوسف:63. أي أنهم لم يلحظوا أن يوسف قد جهزهم بالقمح الذي أرادوه، أو منع منا الكيل: أي في المستقبل بعد هذه المرة؛ لأن العزيز قال لنا: إنّ لم تحضروا أخاكم” فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ” يوسف:60.
وقوله تعالى: “فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” يوسف:63. إذا أردت أن نأتي بالقمح مرةً أخرى، فالكيل لنا ممنوع إلّا إذا أخذنا أخانا معنا، “فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” أي أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم يعقوب عليه السلام، أن عزيز مصر لن يكيل لنا في المرات القادمة إلّا إذا أخذنا معنا أخنا بنيامين، ولا تخش شيئاً فإننا سنحفظهُ، ولن يحدث لهُ أي مكروه، وردّ الأب المُلتاع بفقد ابنه كما يقصُ علينا القرآن قائلاً: “قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ ۖ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” يوسف:64. قال يعقوبُ قائلاً: “فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ“يوسف:64. فحينما قال هذا الدعاء فهو دليل على أنه وافق على أنّ يذهب أخو يوسف معهم، بعد أنّ أحسّ إخوة يوسف أن أباهم سيرسل معهم ابنه الصغير، نزلوا وبدءوا ينزلون ما فوق الإبل، فوجدوا القمح ووجدوا بضاعتهم التي أخذوها معهم ثمناً للقمح رُدت إليه، حينئذ قالوا: “يا أبانا ما نبغي” يوسف:65. أي لا نريد أن نأخذ أخانا، فبضاعتنا موجودة والقمح موجود.

موقف يعقوب عليه السلام من ذهاب بنيامين مع إخوته لأجل الكيل:

حينما وجدوا بضاعتهم والقمح قالوا إنّ كل ما سنزدادهُ هو حملُ بعير، وهو البعير الذي سيركب عليه أخو يوسف، وهذا كيلٌ لا يساوي الإزعاج، بل إنهُ كيلٌ يسير، ولكن يعقوب يعلمُ أنه بعد فترةٍ، سينتهي القمح الذي أحضروه، فلا بدّ لهم من الذهاب، وهو في نفس الوقت شيخٌ كبير ولا يستطيعُ أن يصحبهم في الرحلة، فلجأ إلى تعالى وقال: “قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ“يوسف:66. أي أنني لن أبعثهُ معكم حتى تحلفوا لي بالله إنه لن يحدث له شيء، وسيعود معكم، ثم جاء الاحتياط من يعقوب، أي أن تحدث ظروف خارجةً عن إرادتهم، في هذه الحالة فقط يكون ما حدث قدراً لا يدّ لكم فيه.
إن يعقوب الرسول المؤمن راضٍ بقدر الله، مهما يكن ولو كان فيه ضياع أولاده جميعاً، وقبل أولاد يعقوب الاحتكام إلى الله، وفعلاً أخذ منهم العهد والميثاق، وأشهد الله عليهم كما يقصُ علينا القرآن الكريم: “فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ” يوسف:66. وهكذا أشهدوا الله على ما في قلوبهم، واحتكموا جميعاً إلى الله تعالى.

موعد السفر والرحلة إلى مصر بصحبة أخو يوسف:

لقد أتى موعد الرحلة والسفر من أجل أن يكتالوا مرةً أخرى بصحبة أخو يوسف، وبحنانِ الأبوة وقف يعقوب يودع أبناءه ويُزودهم بنصائحه، قال يعقوب: “وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ ” يوسف:67. فقال هذا الكلام يخشى على أولاده من الحسد، وهو يستعيذُ بالله من ذلك مما يدل على أن البشر لا يقي نفسه من الحسد إلا بالاستعاذة بالله سبحانه وتعالى.
إنّ قول يعقوب لأولاده: “وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ” يوسف:67. لقد أراد بذلك أن يبعد أعين الناس عنهم وخوفاً على أن يحسدهم الناس على كثرة عددهم وعلى قوتهم. وقال: إن تفرقكم لن يغني عنكم من الله من شيء، فالحكم كله لله قضاءاً وقدراً، وأطاع أبناء يعقوب أمر أبيهم ودخلوا من أبوابٍ متفرقة.



شارك المقالة: