البكاء في الصلاة:
تعريف البكاء في اللغة والشرع:
لقد قال الراغب عن البكاء: إنهُ يأتي بالمدّ، وهو سيلانُ الدموعِ عن حُزنٍ أو عويل، ويُقال إذا كان في الصوتِ رغاءً أو ثغاء وسائر هذه الأمور للصوت، وبالقصرِ يُقال إذا كان الحُزن أغلب، ويُقال بُكىً في الحُزنِ وإسالة الدمعِ معاً، ويُقالُ في كلِ واحد منهما مُنفرداً عن الآخر.
أما البكاء في الشرع: هو لاقةً تعتري القلبُ، بسبب خشيةٍ أو خوفٍ أو رحمةٍ أو حُزن شوقٍ تنفعلُ على أثرهِ النفس فتنهمرُ الدموع متتبابعةً.
أقسام البكاء الصلاة:
ينقسمُ البكاءُ في الصلاةِ إلى خمسةِ أقسامٍ وهي:
1- بكاء الخشوع.
2- بكاء الحزن.
3- بكاء الفرح.
4-بكاء الألم.
5-النوع الأخير وهو ما يسمى بالبكاء المُفتعل وهو التباكي.
وقد ذكر ابن القيم: بأن البُكاء في العمومِ ينقسمُ إلى عشرةِ أقسام، ولم يُفرق بين داخلِ الصلاةِ وخارجها ومنها: بُكاء الرحمةِ والرقةِ، وبكاء الخوفُ والخشيةُ، وبكاء المحبةُ والشوق وبُكاء الفرح والسرور وبُكاء الجزعِ من ورود المؤلمِ وعدم احتمالهِ وهناك أيضاً بكاء الحُزنِ، وأن الفرق بينهُ وبين بكاء الخوف يكونُ على ما مضى من حصول مكروهٍ أو فواتِ محبوب. أما بُكاء الخوف يكونُ لما يتوقعُ في المُستقبل من ذلك. والفرقُ بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن هو أن دمعةُ السرور بارةً والقلبُ فرحانُ ودمعة الحُزنِ حارةً، ويكون القلب حزين. ولذلك يُقال لما يفرح به هو قُرة عين، وأقر الله بهِ عينهُ وعندما يحزن هو سخينة العين وأسخن الله عينهُ به.
وهناك أيضاً بُكاء الخور والضعفِ، وبُكاء النفاق وهو الذي يُظهر العين أنها تدمع والقلبُ قاسٍ، فيظهرُ صاحبهُ الخُشوعَ وهو من أقسى الناسِ قلباً.
وهناك أيضاً ما يُسمى بالبُكاء المُستعارُ والمُستأجرُ عليه مثل البكاء النائجةُ بالأجرةِ، فإنها كما قال عمر بن الخطاب: تبيع عِبرتها وتبكي شجوَ غيرها.
أما النوع الأخير من البكاء: وهو بُكاء الموافقة: مثل أن يرى شخصاً ماء الناس يبكونَ لأمرٍ حدث عندهم، فيبكي معهم، ولا يعلمُ لأي شيءٍ يبكون، ولكنه رآهم يبكون فبكى معهم، ولم يكن يصحب هذا البكاء دمعاً ولا صوت، فهو بكىً مقصور ويسمى بكاء ممدود على بِناء الأصوات.
هل البكاء في الصلاة يبطلها
ممّا لا شك فيه بأن جميع أقسام البكاء التي ذُكرت لم يُشرع منها في الصلاة إلا بكاء الخشوع فقط، وكل ما تبقى منها إنما هي من ضمن الكلام المُحرم في الصلاة عمده يبطلها ونسيانه يلزم منه سجود السهو للزيادة في الصلاة: فقال المواق: إن الناس اتفقوا على أن البكاء بصوتٍ مبطل إن كان من مصيبة أو وجع وإن كان من الخشوع فإنهُ لا شيء عليه.
1- قال ابن قدامة: وأما البكاء والتأوه والأنينُ هو الذي ينتظمُ منه حرفان فما كان مغلوباً عليه لم يؤثر على ما ذكرنا من قبل وما كان من غير غلبة فإن كان لغير خوف الله أفسد الصلاة وإن كان من خشيةِ الله فقال أبو عبد الله بن بطة في الرجل يتأوهُ في الصلاة إن تأوه من النارِ فلا بأس، وقال أبو الخطاب إنّ تأوه أو أن أو بكى لخوفِ الله لم تبطل صلاته.
2- قال الطحاوي: في باب البكاء في الصلاة، أن أبو حنيفة وأصحابه قالوا: “بإن كان من خوف الله لم يقطعها وإن كان من وجعٍ قطعها”.
3- أما العيني فقال أصحابنا: إذا بكى في الصلاة فارتفع بكاؤهُ فإن كان من ذكر الجنة أو النار لم يقطع صلاته وإن كان من وجعٍ في بدنه أو مصيبة في ماله أو أهلهِ قطعها وبه قال مالك وأحمد”.
4- قال ابن حزم: ومن بكى في الصلاة من خشية الله تعالى يُمكنه ردّ البكاء فلا شيء عليه ولا سجود سهو ولا غيره فلو تعمد البكاء عمداً بطلت صلاته. قال: إنّ تعمدُ البكاء هو عملٌ لم يأت بإباحته نص. وقال عليه الصلاة والسلام: إنّ في الصلاة لشغلاً فصح أن كل عملٍ فهـو مُحرم في الصـلاة إلا عملاً جاء بإباحته نص أو إجماع.
لقد جاءت السنة مبينة أن في الصلاة شغلاً وأنه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ومخاطباتهم إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ونحو ذلك مثل التشهد والدعاء والتسليم من الصلاة وغير ذلك من الأذكار التي وردت: فعن عبد الله بن مسعود قال : ” كنا نسلم على النبي وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال: “إن في الصلاة شغلاً”.
5- وعـن زيد بن أرقمقال:”إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام يُكلم أحدنا صاحبه بحاجتهِ حتى نزلت هذه الآية الكريمة وهي: “حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين” فأمرنا بالسكوت.
6- وعن معاوية بن الحكم السلميقال: بينما أنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصلاة إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت يرحمك الله، فقال فحدقني القوم بأبصارهم، فقلت وا ثكلاه ما لكم تنظرون إليّ قال فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يسكتونني، قلت: ما لكم تسكتونني، لكني سكتُ قال فلما انصرف رسول الله فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه والله ما ضربني ولا نهزني ولا سبني ولكن قال: إن صلاتنا هذه لا يصلحُ فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيحُ والتكبيرُ وتلاوة القرآن.
7- وعن جابر بن عبد الله: قال بعثني رسول الله في حاجة له فانطلقت ثم رجعت وقد قضيتها فأتيت النبي فسلمتُ عليه فلم يرد علي فوقع في قلبي ما الله أعلم به فقلتُ في نفسي: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد علي أني أبطأت عليه ثم سلمت عليه فلم يرد علي فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى ثم سلمت عليه فرد علي فقال: “إنما منعني أن أردّ عليك أني كنت أصلي وكان على راحلتهِ متوجها إلى غير القبلةِ”. رواه البخاري
وجه الدلالة:
لقد دلت هذه الأحاديث على أن الصلاة لا يصلحُ فيها شيء من كلام الناس وأن فيها لشغلاً فالواجب ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها سواء كان ذلك لحاجة أم لا وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها:
لقد قال ابن كثير: قوله تعالى: “وقوموا لله قانتين” البقرة:238. أي أن تقوموا خاشعين لله وذليلين له بين يديه وهذا الأمرُ مُستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها ولهذا لما امتنع النبي عليه الصلاة والسلام من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه وهو في الصلاة اعتذر إليه بذلك وقال إن في الصلاة لشغلاً، وقال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة إن هذه الصلاة لا يصلحُ فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله.
قال الشوكاني: بأنهُ لا يصلحُ فيها شيءٌ من كلام الناس، وفي الرواية الأخرى أنهُ لا يحلّ من استدل بذلك على تحريم الكلام في الصلاة سواء كان لحاجةٍ أم لا وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها فإن احتاج إلى تنبيه أو إذن لداخل سبح الرجل وصفقت المرأة وهذا مذهب الجمهور من السلف والخلف.