اقرأ في هذا المقال
- ردة فعل قوم مريم عليها السلام وهي تحملُ ولداً
- تكليم عيسى ابن مريم عليها السلام في المهد
- بماذا أوصى الله تعالى عيسى ابن مريم عليهما السلام؟
ردة فعل قوم مريم عليها السلام وهي تحملُ ولداً:
يقول الله تعالى: “فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا – يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا” مريم:27-27. إنّ مريم عليها السلام هي التي ذهبت إلى قومها بنفسها ولم تتوارى عن عيون القوم أو تهرب بوليدها منهم إلى مكانٍ بعيد، ولكنها ذهبت إليهم بنفسها؛ وذلك لأنّ معها الحجة والبرهان، لأن موقفها سليم، وهي واثقةً من تأييد الله تعالى لها، فجاءت إلى قومها تحملُ وليدها على صدرها، فلما رآها القوم على هذه الحالة قالوا: “يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا“؛ لأنهم يعلمون أنها غير متزوجةً.
يُقال أن بعض المستشرقين سألوا الشيخ محمد عبده عن حديثِ الإفك الذي تقولهُ المنافقون على السيدة عائشة رضي الله عنها فقالوا له: بأي وجهٍ قابلت عائشة قومها بعد حديث الإفك؟ فقال لهم: قابلتهم بالوجه الذي قابلت به مريم قومها حين جاءتهم تحملهُ، أي وجه الواثقِ من أنه برئ، وأن الله لا يمكن أن يُسلمها، أو يخذلها، ولذلك فإن السيدة عائشة رضي الله عنها لما ظهرت براءتها وأنزل اللهُ قرآناً، قالوا لها: قومي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: لا، وإنما أحمدُ الله الذي برّأني.
فكون مريم تأتي بوليدها إلى قومها فهذه دلالة على أنها واثقة أن الحجةِ ستوافيها بالوليد؛ لأنها واثقة من نصر الله ومعونتهِ. وكلمة: “يا أخت هارون” مبالغة في التعيير؛ لأنهم عرفوها عابدةً قانتةً فكيف يحدثُ منها ذلك؛ فهذا تقريعٌ لها؛ لأن أباها لم يكن رجلاً سيئاً ولا أمها أيضاً، فكأن القوم استغربوا أن يحدث هذا من مريم وهي العابدة القانتةُ التي جاءت من أبوين كريمين مستقيمين شريفين، فكيف يحدث منها ذلك؟.
لماذا كثرت الأسئلة على السيدة مريم، وكثر الاستنكار من القوم، ماذا فعلت، قال تعالى: “فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا” مريم:29. أي أشارت إلى وليدها، فكأنها تقول لهم: اسألوه، وهذا دليل على أنها عرفت أنه سيتكلم؛ لأنه سبق أن كلّمها قبل ذلك، فاطمأنت على أن تحملهُ إلى القوم، ليس على أنه جسم الجريمة ودليل إدانتها، ولكنها تحملهُ على أنه دليلُ براءتها.
تكليم عيسى ابن مريم عليها السلام في المهد:
فلما أشارت إليه استغرب القوم وقالوا: “كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا“. لم يستبعدوا أن يتكلم الرضيع فقط، ولكنهم أنكروا الحديث معه، وقالوا هل نحن مجانين حتى نُكلم طفلاً رضيعاً.
فقد انبهروا انبهاراً فتّت فيهم القوى، وحتى قوى اللّدد والخصومة حبن ترى هذا لا تجد إلا الانبهار، فالحق أبلجُ والباطلُ لجلج، لقد كان الأمر بيدهم ففي توارتهم أن من يزني يجب أن يُرجم، فلماذا لم يرجموا أم عيسى إذن؟ لا بد أنهم صدموا بقوةٍ جعلت موازين عقولهم وحقدهم تختلُ هذه القوة هي كلام عيسى ابن مريم في المهد: “قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا” مريم:30.
هذه المفاجأة جعلت الجبار فيهم ينهارُ وتخور قواه، هذا من ناحية اليهود، فماذا عن النصارى؟ إن رضيعاً يتكلمُ في المهد، هو معجزة بكل المقاييس، فكيف تخلو كل الأناجيل التي بين أيدينا الآن من هذه الواقعة. إنهُ طفلٌ تكلم في المهد، وكان لا بدّ أن تكون الكلمة التي قالها مدروسة بعناية ولا يمكن أن تنسى. فلا بدّ أن تكون كلمةً رائعة من طفل يتكلم، فكيف لا تأتي هذه الكلمة في الأناجيل؟ إنّ جنود الله تعالى هم الذين حفظوا الكلمة مُذ قالها عيسى عليها السلام وحتى تقوم الساعة، فإن الأناجيل لم تذكر ذلك؛ لأنها لو ذكرت ذلك لسألناهم ماذا قال؟ سيكون الرّد دون مواربةٍ، فقد قال “أني عَبْدُ اللَّهِ” وهذا يُنفى أنه له.
وبينما القوم على هذه الحال، من مفاجأتهم بما تحملُ مريم ، ثم من استنكارهم الكلام مع طفلٍ رضيع، نطق عيسى عليه السلام قائلاً لهم: “قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا – وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا – وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا“مريم:30-32. وكأنه يقول لهم: لا تتكلموا أنتم ولكن أنا الذي سأتكلم، وأول شيء قاله: “إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ” واستهلاله كلامه بعبوديته لله تعالى، دليل على أنه قد يُقال: إنه ليس عبداً وإنهُ إلهٌ أو شريك لله سبحانه، فأول كلمةٍ نطق بها أنه عبد الله تعالى، ولذلك تجد أن أهل الكتاب يقولون عنه: إنهُ تكلم في المهد، فإذا سألتهم ماذا قال حين تكلم؟ تجدهم يصمتون ولا ينطقون بما قاله أبداً؛ لأن كلامهُ ينفي معتقدهم.
وهناك معنى أيضاً أن هذا الوليد هو أهلٌ لأن يتحمل أمانة السماء والأرض، وجعلهُ نبيّاً ذا سلوك قويم ولا يمكن أن يكون كذلك وفيه أي مطعن، وفوق ذلك أنه جعلهُ مباركاً أينما كان، فهذه الصفات هي أنه عبد الله، آتاه الكتاب، والكتاب لم يأت بعدُ ولكنهُ سينزل في المستقبل؛ وذلك لأن هذا الوليد يتكلم عن الحق سبحانه فلا بدّ أنهُ ملقّن، والذي يلقنهُ هو الذي سيؤتيهِ هذه الأشياء وهو الحق تعالى، وبعد ذلك قال أيضاً:”وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا” مريم:31.
بماذا أوصى الله تعالى عيسى ابن مريم عليهما السلام؟
لقد أوصى الله تعالى عيسى عليه السلام، بالصلاة والزكاة، أي أن الحق سبحانهُ وتعالى شرعَ له هذه العبادات والشرائع، ثم يقول تعالى: “وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا – وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا” مريم:32-33. والبرّ بالوالدين معروف فهو باراً بوالدتهِ، بمعنى أنه حين يكبر ويعرف القصة أنه وُلد ولدٌ من غير أب دون أن يمس أمهُ بشر، فهذه الأحداث لن تسبب له أي ضيق، أو غرابة؛ لأنه هو نفسه الدليل على صدق هذه المعجزة، والدليل لا يشكك في المدلول، أي إياكم أن تظنوا أني سأكون عاقاً لوالدتي، بل سأكون بارّاً بها عطوفاً عليها، ومعنى: “وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا“.
فالحق سبحانه وتعالى حين يُرسل رسولاً لا بدّ أن يجعلهُ ليّن الجانب؛ لأنه سيأتي ليخرج الناس مما ألفوه من الفساد، ومعنى: “وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا” أي أن يوم ميلادي كان سلاماً؛ لأن هذا الحدث لو وقع لبنت في أسرة أخرى كان من الممكن أن يقتلوها، ويقتلوا وليدها، ولكنها مرت بسلامٍ، والسلام عليه أيضاً يوم يموت، وهنا خصّ يوم مولدهِ ويوم مماتهِ بالسلام؛ لأن الولادة يُقابلها الموت، والسلام عليه يوم موتهِ؛ لأنهم سيأتون ليأخذوه بغيةً صلبه وقتلهُ، وبعد ذلك يُشبه لهم أنهم صلبوه وقتلوه، ولكن الله تعالى نجاهُ منهم ومن كيدهم ورفعهُ الله سالماً من كلّ سوء. وذكر السلام على نفسه يوم يُبعث حيّاً؛ لأنه ليس هناك رسولٌ سيسألهُ الله هذه الأسئلةِ إلا عيسى عليه السلام، وهو قول الله تعالى : “وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ –مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” المائدة:116-117.