رأي ابن القيم في قصر الصلاة:
لقد قال رحمه الله أثناء ذكره لفوائد غزوة تبوك: ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عش عن حكم السفررين يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفق إقامته هذه المدة، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرجُ عن حكم السفر سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع.
وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافاً كثيراً، ففي صحيح البخاري عن أبن عباس قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعُ عشرة يصلي ركعتين، فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا.
وظاهر كلام أحمد أن ابن عباس أرادَ مدة مقامهِ بمكة زمن الفتح، فإنهُ قال: أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة ثمانية عشرة زمن الفتح؛ لأنه أراد حنيناً، ولم يكن، ثم أجمعا لمقام، وهذه إقامتهِ التي رواها ابن عباس.
التعقيب على هذا الرأي: إن الإمام ابن القيم رحمه الله يُخالف شيخهُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذلك أن شيخ الإسلام يرى أن الناس ينقسمون قسمين: مستوطن ومسافر، فهو لا يرى وجود القسم الثالث وهو: المقيم غير المستوطن.
أما من أقام، وهو غير عازم على الإقامة فهو في حكم المسافر، سواء رأى أن عمله ينقضي في أربعة أيام أم أكثر، واعتبر هذا هو مدلول إقامة النبي عليه الصلاة والسلام أثناء سفره، وكذا يرى أنه مدلول ما روى عن الصحابة رضي الله عنه، حينما قصروا في إقامتهم خارج بلادهم، وقد رد على من خالف في هذا، فقال رحمهُ الله: قال الإمام أحمد: إذا نوى إقامة أربعة أيامٍ أتم، وإنّ نوى دونها قصر، وحمل هذه الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يجمعوا الإقامة البتة، بل كانوا يقولون اليوم نخرج غداً نخرج، وفي هذا نظرٌ لا يخفى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهي ما هي. وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام، ويهدم قواعد الشرك، ويمهد أمر ما حولها من العرب، ومن المعلوم قطعاً أنّ هذا يحتاج إلى إقامة أيامٍ لا يتأتى في يومٍ واحد، ولا يومين، وكذلك إقامتهُ بتبوك، فإنهُ أقام ينتظر العدو، ومن المعلوم قطعاً أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل يحتاج إلى أيام، وهو يعلمُ أنهم لا يوافون في أربعة أيام.
تحريم مذهب ابن القيم:
إنّ قولهُ في أول كلامهِ السابق: ولكن اتفق إقامتهُ هذه المدة، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرجُ عن حكم السفر سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموقع.
إنّ هذا الموقع يُحدد لنا مذهب ابن القيم رحمهُ الله فيمن سافر وأقام، فهوى يرى أن من كانت إقامتهُ غير مقصودةٍ بل دعت إليها الظروف التي سافر من أجلها أو كانت إلى غير إرادتهِ كحبس سلطان، أو حصار عدو، فإنهُ يقصر، ولو كان يظن أنها تزيد على أربعة أيامٍ؛ لأنهُ لم يخرج بهذه الإقامة عن حد السفر، ويرى أن هذا هو ما دل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وفي غزوة تبوك؛ وذلك لأن إقامته عليه الصلاة والسلام بمكة عام الفتح وبتبوك غير مقصودةٍ ولا مرادة، بل اقتضتها مصلحةُ الجهاد والفتح، ولذلك فهي في حكم السفر أما من عزم على الإقامة أو استوطن فإنهُ يتم صلاته؛ لأنه انقطع سفره.
تعريف العزم في الإقامة:
العزم في اللغة: هي إرادة الفعل، وقيل: ما عقد عليك قلبك من أمر أنك فاعلهُ، وعلى هذا فالمقصود بالعزم على الإقامة: أن يختارها بمحض إرادته لا أن تفرضها عليه الظروف المحيطة به فإن هذا لا يسمى عازماً عليها، بل ملزم بها؛ لأنها جاءت على خلاف إرادتهِ، وهذا النوع من الإقامة لا تقطع حكم السفر، بخلاف ما كان عازماً عليها.
وقد حمل ابن القيم إقامة النبي عليه الصلاة في غزواته، وكذا إقامة الصحابة على هذا النوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابهُ لم يختاروا الإقامة، بل مصالح الجهاد التزمت بها.
أما الفرق بين المستوطن والعازم على الإقامة، هو إن المستوطن هو من قصد الإقامة المُطلقة، أما العازم على الإقامة فهو من قصد إقامةً مفيدة بانتهاء عمل أو مضي زمنٍ، كإقامة البدو في أماكن الرعي حتى ينتهي المرعى، أو إقامتهم على المياه حتى ينتهي فصل الصيف، أو عزم المسافر على إقامة أياماً معينة.