اقرأ في هذا المقال
الأرش بين العقوبة والتعويض؟
لم يتعرض فقهاء المذاهب المختلفة لبحث طبيعة الدّية أو الأرش وتصنيفهُ، بأن هو عقوبة أم تعويض، وإنما كلّ ما ورد عنهم إشاراتٌ، يُفهم منها ما يمكن أن نُصنف الأرش بناءً عليها؛ ولذلك نجد أن الباحثين المعاصرين اختلفوا في هذه المسألة اختلافاً بينياً، وخاصة بعد أن طغت القوانين الغربية على الشريعة الإسلامية في البلاد العربية، فكان لا بدّ من تحرير محلِ النزاع بينهم بذكر مواطن الاتفاق ومواطن الخلاف وسبب الاختلاف بينهم وآرائهم مع أدلتها، وذلك وصولاً للرأي الذي نراهُ أقرب للصواب.
تحرير محل النزاع:
لقد اتفق الفقهاء على أن الأرش هو حقٌ خالصٌ للمجني عليهِ أو أوليائهِ، ولهُ الحق أن يُطالب به ولهُ أيضاً أن يعفو عنه إن أراد. أما موطن الخلاف ومحور الجدال، فقد دار بين المعاصرين في طبيعة تكييف الأرش فقهاً بأن هل هو عقوبة أم تعويض، وجاء ذلك على ثلاثةِ أراء:
الرأي الأول: إن الأرش عقوبةً خالصة على الجاني، وهذا ما ذهب إليه بعض المعاصرين. ومن أدلة أصحاب هذا الرأي: لقد استدل القانون بأن الأرش عقوبة خالصة بالمعقول.
– إن الأرش مقابل الجناية على أعضاء ومنافع الإنسان الحر والتي لا تقوّم بمال، وما ليس بمال لا يضمن بالمال أصلاً، فدل على أنه عقوبةً لا تعويض، فلو كانت الجناية على مالٍ متقوم، مثل الجناية على الحيوان فيمكن أن نعتبرها تعويضاً.
– إن الأرش هو شرعٌ بدل القصاص حالَ تعذره أو سقوطهِ لسببٍ من الأسباب، فلما كان القصاص عقوبة فبدله كذلك.
– إن الشريعة الإسلامية جعلت الأرش عقوبة أصليةً للجرح والخطأ وشبه العمد.
– إن الأرش مقررٌ كجزاءٍ للجريمة ولا يتوقف الحكم به على طلب المجني عليه، وإذا عفا؛ يجوز للحاكم أن يُعزر الجاني بعقوبةٍ تعزيرية، ولو لم يكن الأرش عقوبةً لتَوقفِ على طلب المجني عليه ولما جاز أن تحلّ محلهُ عقوبة تعزيرية عند العفو.
– إن الأرش فيه معنى الزجر للجاني، وذلك بحرمانه من جزء من أموالهِ؛ فدل على أنه عقوبة.
الرأي الثاني: قالوا بأن الأرشَ هو تعويض مالي بالمعقول، وكان دليلهم على ذلك:
– إن مقدار الأرش يختلف باختلاف الإصابة، فأرش الأعضاء التي فيها منفعة مقصودة وجمال تختلف عن أرش الأعضاء التي ذهبَ منفعتها؛ فإصابةُ اليد الصحيحة يختلف أرشها عن إصابة اليد الشلاء، ولو كان الأرش عقوبة لما اختلف باختلاف الإصابة.
– أيضاً يجوز للحاكم أن يجمع بين الأرش حفاظاً على حق العبد وبين التعزير حفاظاً على حق الله وزجراً للجاني، ولو كان الأرش عقوبة لما جازَ الجمع بينهما، إذ لا يصح أن يجمع بين عقوبتين في آنٍ واحد.
– إن الأرش يدخل في مال المجني عليه لا في خزينة الدولة، ولو كان عقوبةً لدخل في مال الدولة.
– مشاركة العاقلة للجاني في تحميل الأرش في بعض المواضع يدل على أنه تعويض لا عقوبة، إذ لا معنى للزجر والردع فيه فلا يعقل أن تعاقب العاقلة على ما لم تَجنهِ.
– إن الأرش يتعدد بالفعل الواحد، فلو ضرب إنسان آخر، فأذهب سمعه وبصره وعقله وشمهُ، فقد توجب عليه أربعُ دياتٍ عليه. أما العقوبة فهي ثابتةٌ لا تتعدد مهما نتج عن الفعل من ضرر، فلو قتلَ رجلٌ جماعة فليس لهم إلا قتلهُ.
أما الرأي الثالث: فالأرشُ يدورُ بين العقوبة والتعويض، وهذا ما ذهب إليه بعض المعاصرين.
وكان أبرزهم عبد القادر عودة، والسيد سابق. واستدل القائلون بأن الأرش عقوبة وتعويضٌ في آنٍ واحد، وبأن الأرش فيه بعض خصائص العقوبة وبعض خصائص التعويض.
– الأرش فيه عقوبة:
لأنه لا يتوقف الحكم به على طلب المجني عليه، وإنما مقرر جزاءً للجريمة. أنه في مقابلة ما لا يُقوّم بمال، وما ليس بمال لا يصحُ أن يُقابل بالمال. لو عفا المجني عليه فللحاكمِ أن يُعزرهُ بعقوبةٍ تعزيريةٍ مناسبة.
– الأرش عقوبة:
لأنه مال خالص للمجني عليه ولا يدخل في مال الدولة. ولأن فيه تعويض لما أصاب المجني عليه من الضرر. ولأنه أيضاً لا يجوز الحكم به إذا تنازل المجني عليه عنه.
سبب الخلاف بين المعاصرين في تكييف الدية:
إن سبب الخلاف بين الباحثين المعاصرين في تكييف الدية فقهاً يرجعُ إلى:
1. عدم وجود دليل من القرآن أو السنة أو الأثر أو إجماع الأمة يُصرح بطبيعة الدية.
2. ويرجعُ أيضاً إلى تطبيق معايير القوانين الوضعية بدلاً من أحكام الشريعة الإسلامية في البلاد العربية؛ فمن رأى أن الأرشَ عقوبة استند إلى معايير العقوبة في القانون الوضعي كون العقوبة مقدرة ومحددة مسبقاً، ومبدأُ مساواة الناس أمام القانون، ومن رأى أن الأرش تعويض مدني استندوا إلى معايير التعويض في القانون الوضعي، مثل ذهاب الأرش للمجني عليه ومشاركة العاقة والدولة للجاني في تحمل الأرش، ومن رأى أن الأرش عقوبة وتعويض استند إلى معايير التفرقة بين العقوبة والتعويض في القوانين الوضعية.