التعزير:
إن الأصل في الشريعة الإسلامية هو أن التعزير للتأديب، وأنه يجوز من التعزير ما أمنت عاقبتهُ غالباً، فينبغي أن لا تكون عقوبة التعزير مهلكة، ومن ثم فلا يجوز في التعزير القتل ولا القطع.
التعزير في جرائم الخطأ على النفس وما دونها:
لقد تقدم بيان أن جرائم الخطأ على النفس وما دونها تجب فيها الدية أو الأرش على حسب الأحوال. وسنبحث الآن حكم هذه الجرائم بالنسبة للتعزير. وجرائم الخطأ، سواء أكانت على النفس أم على ما دون النفس، ثمرة لعدم التحرز، وعدم المبالغة في التثبت، ويمكن فيها اجتناب النتيجة بشيء من التكلف والجهد، وهذا ليس متعذراً بل يمكن التزامه حتى لا يترتب على الفعل المباح في الأصل إيذاء أحد.
ففي هذه الجرائم لا يأثم الشخص إثم ما ينشأ عن الفعل الخطأ من قتل أو فصل عضو أو ذهاب منفعته أو شجة أو جرح، لكنه يأثم إثم التحرز والمبالغة في التثبت على ما سبق بيانه. وإن عدم الاحتياط أو الانتباه وترك التحرز الذي يؤدي إلى النتيجة الضارة، هو محل المساءلة الجنائية. ولا يمكن في رأي القول بأن هذا النوع من الجرائم ليس فيه إلا الدية أو الأرش على حسب الأحوال؛ لأن القول بذلك يؤدي إلى أن يبقى الجاني بغير عقاب في أحوالٍ، منها حالة العفو عن الدية أو الأرش، وحتى إذا لم يعف عن الدية أو الأرش فإنهما من حق المجني عليه أو ولي الدم، وليسا في العقوبات بمعناها العام، ويجب إلى جوار هذا الجزاء الخاص تعزير الجاني في الجريمة الخطأ على النفس وما دونها، رعاية لمصلحة المجتمع ذاته.
وهناك أحوال لا يقول فيها بعض الفقهاء بدية أو أرش، فإذا قيل مع ذلك بعدم التعزير ظل الفعل بغير جزاء من أي نوع كان، وهذا القول لا يستقيم، ومثال ذلك أن أبا حنيفة يقول بأن الشجة إذا برئت ولم يتخلف عنها أثر، فليس فيها شيء، فلا أرش للموضحةِ ولا للهاشمة ولا للمنقلة ولا للآمةِ، إذا برئت دون أن يبقى لها أثراً فلا شيء فيها. فيكون التعزير عندي لازماً حتى لا يبقى الجاني في مثل هذه الأحوال بدون جزاء. والراجح كذلك عند المالكية أنه لا أرش في الشجاج أو الجراح الخطأ، إذا برئت على غير شين، وذلك إذا لم يسم الشرع عوضاً، ومثاله العظم الخطر إذا برئ على عثم، فإذا كان الحال كذلك فكيف يبقى الجاني بلا جزاء.
ومع ذلك فقد قال ابن حزم: إن الجناية الخطأ ليست بسيئة؛ لأن السيئة هي ما نهى الله عنه، وليس الخطأ ممّا نهى الله عنه، لقوله تعالى: “لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها” البقرة: 286. وليس في وسع أحد الامتناع من فعل الخطأ، الذي لم يتعمدهُ ولا يقصده، ويقول بناء على ذلك إن الخطأ كله معفو عنه، ولا جناح على إنسان فيه، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: “وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” الأحزاب:5.
وبقول الرسول عليه الصلاة والسلام “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”. وقال إن الأموال محرمةً لقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ” النساء:29.
ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام”. فلا يجب على أحدٍ حكم جناية خطأ، إلا أن يوجب ذلك نصٌ صريح أو إجماعٌ متيقن، وإلا فهو معفو عنه، ولا يمكن قياس ما دون النفس على النفس في إيجاب الدية والرقبة والصيام؛ لأن القياس كله باطل عنده، ولو كان القياس حقاً لكان القياس هنا باطلاً أيضاً؛ لأنه ليس فيما دون النفس العلة التي في النفس، ولأن أصحاب القياس قد نقضوه في بعض الجنايات، ففي بعضها لم يجعلوا فيه دية أصلاً، إلا حكومة أو أجر الطبيب، وإلا لا شيء.
ومع التسليم جدلاً بما يقول ابن حزم من أن الخطأ ليس بسيئة، فإن ذلك لا يمنع ولي الأمر من أن يفرض في جرائم الخطأ ما يراه من تعزير ممّا تتحقق به المصلحة، وقد علمنا أن التعزير حتى وإن كان في الأصل عقوبة على كل معصية لا حدّ فيها، ولكن هذا لا يمنع من أن يفرض التعزير في ارتكاب المكروه وترك المندوب، بل لا يمنع من أن يكون التعزير في غير معصية إذا كانت في ذلك مصلحة عامة. وفضلاً عن ذلك فإن حديث: “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان”.