النفي تعزيراً:
قال الطريخي: “إن النفي هو الطرد والدفع؛ ويُقال: نُفيت الحصى من وجه الأرض فانتفى، ثم قيل لكلِ كلامٍ تدفعه ولا تُثبته: نفيتهُ، ومنه” نفي إلى بلدة أخرى، أي بُعث إليها، أو أرسل إليها. وعن ابن الأثير قال: النفي هو الإبعادُ عن البلد، فيقال نفيتهُ نفياً، إذ أخرجته من البلد على سبيل الطرد.
والتعزير:هو العقوبة غير المقدرة، والتي يرجع تقديرها إلى الحاكم الشرعي، وقيّدها بعضهم بقوله “في الغالب” وذلك لورود تعزيرات خاصة في الشرع، سواء محددة أو مقدرة.
مشروعية النفي:
لقد ورد النفي عقوبة في آية المحاربة، وهي قوله تعالى: “إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ“المائدة:33. فليس هناك خلاف في أن النفي عقوبة من العقوبات التي أقرتها الشريعة الإسلامية. كما أن النبي عليه الصلاة والسلام، قضى بالنفي تعزيراً في شأن المخنثين إذا نَفاهم من المدينة.
فقد نفى عمر بن الخطاب نصر بن حجاج لافتتانِ النساء به، كما عاقب به صبيغاً لسؤاله عن الذاريات والمرسلات وشبههنّ. وقد يُقال: إن واقعة نفي نصر بن حجاج لا تُفيد بذاتها مشروعية النفي كعقوبة تعزيرية، إذا ثبت أن نصر بن حجاج لم يرتكب جرماً. ولكن أقول رداً على ذلك إن روايات نفي نصر بن حجاج لم يرد فيها ما يدلُ على معصيةٍ تدعو لتعزيرهِ، إذ يحتمل أن نصراً كان منه الافتتان به من أفعال إرادته، كميلهِ إلى التطرف بالقول أو الحركة أو اللباس، أو نحو ذلك ممّا رأى عمر معه أن يؤدبه بنفيه ليمتنع عن ذلك. وعلى هذا الغرض يكون النفي قد وقع تعزيراً على معصية. وقد أجمع الفقهاء على مشروعية التغريب عقوبةً في التعزير، وأورَدوهُ من بين العقوبات التعزيرية.
مجال النفي:
إن من الجرائم التي ورد التغريب عقوبةً فيها هي التخنث، والكلام في المتشابهات من القرآن الكريم، والتزوير واستعمال المحررات المزورة، فقد نفى عمر بن الخطاب معن بن زائدة لما عمل خاتمَ بيت المال، وأخذ بهذه الوسيلة منه مالاً، وذلك بعد ما ضربه غير مرة وحبسه.
وقيل بالنفي عقوبة تعزيرية مع الجلد في جريمة الزنا لغير المحصن. والذي نستنتجهُ من هذا الأمر أن عقوبة التغريب تعزيراً يغلب أن تكون في الجرائم التي يخشى أن يتعدى أثرها إلى الغير، ويتطلب الأمر فيها الحماية منها ودفع المجرمين فيها، ودفع شرهم عن غيرهم من المحيط الذي ارتكبت فيه الجريمة، وهذا لا يمنع أن تفرض عقوبة التغريب لجرائم أخرى، إذ حكم بها عمر في التزوير والاستعمال على ما مر. والذي نراه ان للمُشرع حرية فرض هذه العقوبة في الجرائم التي يرى من المصلحة فرضها فيها، وأنها تكون عظيمة الجدوى في الجرائم المخلة بالأمن والدين.