انتفاء المماثلة:
المماثلة: هي شرط مهم لوجوب القصاص فيما دون النفس، فإذا لم تتوافر فإن القصاص يسقط، وعلى ذلك فإن قطع الجاني بالجناية عضواً للمجني عليه، أو إذا ذهبت بالجناية منفعته، ولم يكن هذا العضو قائماً لدى الجاني، فلا يمكن القصاص لانتفاء المماثلة.
من الأمثلة على ذلك، هو أن تقع الجناية على يد المجني عليه اليسرى، في حين أن اليد اليسرى للجاني مقطوعة من الأصل، فلا يكون القصاص ممكناً بأخذ اليد اليمنى للجاني، أو إذهاب منفعتها؛ لأن اليد اليمنى ليست مماثلةً لليد اليسرى، لا في المكان ولا في المنافع، فإن قيل بالقصاص في ذلك فقد كان ظلماً وإجحافاً. والذي قيل في هذا المثال أن كل جارحةٍ وقعت عليها الجناية إذا لم يوجد نظيرها لدى الجاني.
وإذا وقعت الجناية على جارحة زائدة، كأصبع مثلاً، فلا قصاص فيها من جارحةٍ أصيلة؛ وذلك لأن الزائدة دون الأصيلة، وإن حصل العكس فلا قصاص فيها أيضاً؛ لأن الزائدة التي يُراد أخذها بالأصيلة لا تُماثلها، كما أن الجارحة الزائدة لا تؤخذ بالزائدة، إلا إذا كانتا متفقتين في المواضع وفي الخلقة، فإن اختلفتا في شيء من ذلك، فلا قصاص لعدم المماثلة.
أما إن تراضى الجاني مع المجني عليه على أخذ شيء بما يُخالفه في الإسم أو في المواضع أو في المنفعة لم يجزِ هذا التراضي؛ لأن الدماء لا يمكن أن تُستباح، وهذا بدليل أنه لا يحلُ لإنسان قتلُ نفسه، ولا قطع أطراف نفسه، ولا يحلُ ذلك لغيره بإباحته له، وذلك لحق الله تعالى الذي يستوجب حرمة الدماء. وإن كانت اليد التي قطعت أو فاتت منفعتها بالجناية شلاء مثلاً، فلا تؤخذ بها يدُ صحيحة، وهكذا في كل عضوٍ وجارحةٍ، لعدم المماثلة.
عدم إمكان استيفاء المثل:
وهذا الشرط الثاني بعد انتفاء المماثلة، فإذا لم يكن القطع من مفصلٍ، أو لك يكن هناك حدٌ ينتهي إليه القطع، فلا يقتص من الجاني إذا جنى على جارحة فأذهبهَا، أو أبطل منفعتها؛ لأن القصاص إذا كان هناك مفصلٍ أو حدّ معروف يمكن الانتهاء عنده يكون ممكناً بدون ظلم أو حيف، لكنه لا يكون إذا لم يكن هناك مفصلٌ أو حدٌ معروف.
ومن المثال على الجناية على الجوارح التي لا يمكن فيها استيفاء المثل هي قطع قصبة الأنف، أو الكف أو نصف الساعد أو الساق أو العضد أو الورك، فليس في كل ذلك قصاص، وذلك لما روى أن رجلاً ضرب آخر على ساعده بالسيف فقطعهُ من غير مفصل، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام له بالدية، فقال المجني عليه إني أريد القصاص، قال: “خذ الدية بارك الله لك فيها” ولأن القصاص في مثل هذه الحالات لا يخلو من ظلم، إذ لا يمكن أن يستوفي بالقصاص مثل ما كان بالجناية، بخلاف ما إذا كان القطع مفصل، أو كان له حدّ ينتهي إليه.
وإذا لم يكن القصاص ممكناً كما تقدم فهل يقتص من الجاني من مفصل دون ما كان بِجنايته، فيقتص مثلاً بقطع مارن الأنف إذا نشأ عن الجناية قطع الأنف كله من قصبة ومارن، وبقطعِ الأصابع إذا كانت الجناية على الكف، وبالقطعِ من الكوع إذا كانت الجناية من العضد.
ولقد أجاز ذلك فريقٌ من الفقهاء منهم بعض الحنابلة والشافعي لعجز المقتص عن استيفاء حقهِ كاملاً، فليس إلا أن يأخذ ما دون حقه، فأشبه ما لو شجّهُ هاشمة فاستوفى موضِحة، أما الجزء الباقي بعد هذا القصاص فتكون فيه حكومة، لعدم إمكان الاستيفاء بالنسبة له، وقيل بعدم وجوبها حتى لا يجتمع القصاص مع الأرش في عضوٍ واحد.
وإذا ترتب على الجناية ذهاب الأجفان على سبيل المثال، فقال البعض منهم مالك وأبو حنيفة، إنه لا يمكن القصاص لعدم وجود حدٍ معلوم يوقف عنده، فلا يكون المثل ممكن الاستيفاءُ. وذهب غيرهم مثل الشافعي وأحمد، إلى القصاص في مثل الجفن، وذلك لقول الله تعالى: “والجُروحُ قصاص” المائدة:45. ولأنه لا ينتهي إلى نهاية مضبوطة، فكان كما فيه مفصّل، فيمكن فيه الاسيفاءُ.
وفي مثل الأنثيين اختلف الفقهاء كذلك: فهناك فريقٌ يرى أن استيفاء المثل فيهما غير ممكن، لأنه ليس لهما حدٌ معلوم يمكن أن يوقف عنده، ومن هؤلاء أبو حنيفة، ويرى آخرون منهم الشافعي والبعض من الحنابلة أن القصاص في مثل الأنثيين ممكنٌ لقوله: “والجروحُ قَصاصٌ” المائدة:45. ولأن لهما حدّاً يمكن الانتهاء إليه، فيمكن فيهما القصاص من غير حيف. وإذا قطع الجاني إحدى الإثنتين، وقال أهل الخبرة إن القصاص ممكن سلامة الأخرى، فإنه يجب، وإذا خاف أن يترتب على القصاص تلفٌ للأخرى فإنه يسقط، إذ القول به مع ذلك فيه زيادة، والقصاص هنا يستلزمُ التساوي.