تعميم الأذان:
لقد ذكرنا بأن الأذان هو من أفضل العبادات القولية، وهو من شعائر الإسلام المهمة والبائنة التي إذا تركها أصحاب البلد أثموا، وهو العلامة الواضحةُ بين دار الإسلام ودار الكفر حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتركُ قتال بلدٍ لأجل سماعه صوت المؤذن يجلجلُ بالتكبير، وقد شرع للنداء للصلوات الخمس، وكان الهدف منه الإعلام بدخول وقتها.
فالأذان هو عبادة يتعبدُ بها لله تعالى، ولا بدّ من وجود النية فيها، فوجود النيّة هي شرطُ صحةٍ لأيّ عبادةٍ يتعبد بها، فلو أذَّن مؤذنٌ دون قصد للنية فلا يصح الأذان على القول الراجح؛ إذ لابد أن ينوي المؤذن عند أدائه الأذن أن هذا أذان لهذه الصلاة، ولهذا لم يعتبر أذان السكران والمجنون والمغمى عليه عند جمهور أهل العلم.
وفي عهدنا هذا فقد اخترعت أهدافٌ لم تكن تظهرُ من قبل، وتعتمدُ بعض المساجد في بعض الدول في رفع أذانها على أذانٍ مسجل في شريط، أو أذانِ المذياع، وهذا ليس من المشروع في شيء ولا يعتمد أذاناً. فعلى أهل كل بلد أن يجعلوا لهم من أنفسهم مؤذناً يؤذن لهم كما جاء في حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ”صحيح البخاري.
وقد ورد في هذا الأمر مسألة مهمة، وهو إنه لا يكتفي في الأذان المشروعُ للصلوات المفروضة أن يؤذنُ من الشريط المسجل عليه الأذان، لكن من الواجب أن يؤذن المؤذن للصلاة بنفسه لما ثبت من أمره عليه الصلاة والسلام بالأذان، والأصل في هذا الأمر الوجوب. ولقد سُئل أحدٌ عن الأذان في المذياع أو التلفاز هل يُجاب فقد أجاب قائلاً: إنّ الأذان لا يخلو من حالتين وهما:
الحال الأولى: وتشمل هذه الحالة بأنّ يكونُ الأذان على الهواء بمعنى إن كان لوقت الصلاة من المؤذن فهذا يجاب؛ وذلك لعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم: “إِذَا سمِعتم النِّدَاء فقولوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ” صحيح البخاري. إلا أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: “إذا كان قد أدَّى الصلاة التي يؤذن لها فلا يجيب”.
أما الحالة الثانية: وهي الحالة التي يُسجل فيها الأذان، ولا يكون أذناً على الوقت فإنهُ لا يُجيبه؛ لأن هذا الأذان ليس حقيقياً أي أن الرجل لم يرفعها حين أمر برفعه وإنما هو شيء مسموع لأذان سابق. وإن كان لنا تحفظ على كلمة: يرفع الأذان ولذا نرى أن يقال: “أذن فلان”، لا: “رفع الأذان”.
ويُعتبرُ الأذان عملٌ عظيم وشعيرةً جليلة من شعائر الإسلام، وهو عبارة عن ميزةً واضحة على رأس المساجد، فما أعجب وأعظم تلك المنابرُ حين يصدحُ صوتها في الآذان وما أجملها عندما يصدح المؤذن بأذانه في أنحاء بلاد الإسلام، ويُجلجل صداه في الآفاق، فإنهُ لنداءٌ عظيم يرغمُ أنف المتجبرين، ويزعزعُ شوكة المشركين، فعلى هرّ الوقت لا يزالُ يضيقُ به ذرعاً أصحاب الفساد والعِناد.
إنّ من يمنع الأذان أنّ يُقام من فوق المنابر والمنارات وأن يرفع شعاراً فوق الشعاراتِ، فإن ذلك يُعد تجنباً وابتعاداً عن دين الله تعالى، ويُعدُ أيضاً تعدياً على حدوده، وقريبٌ من منعهِ أداءِ دورهِ والتدخلُ في خاصياته من وقتٍ وسمات وشروط وآداب وأحكام وغير ذلك، كما وقع في ظنّ كثير ممن انزعجت آذانهم بسماع المسلمين وأذانهم، حتى قال قائلهم: “أن بيوت الله يجب أن تكون مصدراً لإسعاد الناس، وليس لإزعاجهم وإرهابهم فكريا” قاصداً بذلك الأذان، فرأوا أن يقوموا بتوحيدِ الأذان ظناً منهم أن الأذان نغمة موسيقية، ولكن من الأفضل توحيدهُ بحيث يرفع الأذان في وقت واحدٍ في البلد كلها، وأن يعمم عبر الشبكة الإلكترونية، ويكون المؤذن واحداً، وعجبي من هذا الهراء، ومن حذا حذوه، فصحيحٌ أن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.
فمن إظهار العجب هو أن يُدافع بعض المساكين الذين يدعون العلم عن الأذان بقوله في مسألة الأذان بأن يُوحد عن طريق الشبكة الإلكترونية، أي أنها تضع قيوداً على حرية الإبداع بغلق بابِ الاجتهاد الفني أمام المؤذن وتشييد نغمةٍ واحدة لصوتٍ واحد في الأذان، وأنه إفقارٌ للخيال وللثراء النغمي؛ وذلك بتثبيت نغمة واحدة وصوت واحد للأذان، ممّا يُعد إساءة بالغة للثقافة الغنائية، وإساءة للتقاليد الفنية للأذان، وأيضاً يسبب لأكثر من تسعين ألفاً من المؤذنين في بلدة البطالة فيبقون دون أي عمل وأي مصدر
إنّ الأمر هنا ليس بالأمرُ الهيّنِ أو البسيط، فهذا الأمر دينٌ، وهذه بلادُ الإسلام فمن شاء أن يحيا فيها بإقامة شرع الله وإلا فلينظر أيَّ أرضٌ تؤويه، فليس البشرُ هم من يتحكم في دين الله، والدينُ ليس ثقافة غنائية موسيقية، إنهُ وحيٌّ رباني، لا يعبر عنه أنه فكر ولا ثقافةً ولا نغمات فنية.
فسبحان الله رأى إلى أجرةِ القائم على الأذان ولم ينظر إلى أجره عند الله، “فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَومَ الْقِيَامَةِ” و “الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعنَاقًا يَومَ الْقِيَامَةِ” ولهمٌ من الأجر شيءٍ عظيم، هذه الفكرة ستُحرم كثيراً من المؤذنين الأجر وتحصره في واحدٍ أو اثنين، بل حتى من سيختار صوته ليس له أجر تسجيله، فيكون أول محروم، وربما كان ذلك جالباً له الرياء والعجب.
وبعد ما تقدم من أمورٍ مهمةٍ والمتداولة فقد بين لنا مجلس المجمع الفقهي ما يلي:
1- قد تبينّ لنا بأن الأذان هو من شعائر الإسلام المهمة والتعبدية الظاهرة، المعلومةِ من الدين بالضرورة بالنص وإجماع المسلمين، ولهذا فالأذان من العلامات الفارقة بين بلاد الإسلام وبلاد الكُفر، وقد حكي الاتفاق على أنه لو اتفق أهل بلدٍ على تركه لقتلوا.
2 –التوارث بين المسلمين من تاريخ تشريعه في السنة الأولى من الهجرة حتى الآن، ينقل العمل المستمرُ بالأذان لكل صلاةٍ من الصلواتِ الخمس في كل مسجد، وإن تعددت المساجد في البلدِ الواحد.
3- وفي حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا حضَرت الصلاةُ فلْيُؤذِّنْ لكم أحدُكم ولْيَؤمَّكم أكبرُكم”.
4- وجود النية؛ لأنها من شروط الأذان، فلهذا الأمرُ لا يصحُ من المجنون ولا من السَكران ونحوهما أن يؤديا الأذان؛ وذلك لعدم وجود النية في أدائه فكذلك في التسجيل المذكور.
5- ويُعتبر الأذان صفةٌ بدنية، فقال ابن قدامة رحمه الله: “وليس للرجل أن يبني على أذان غيره؛ لأنه عبادة بدنية فلا يصح من شخصين كالصلاة”.
6- هناك بعض المساوئ بسبب وحدة الأذان في المساجدِ عن طريق مسجل الصوت على الأمر المذكور فيه ومن هذه المخاطر، وأنه يرتبطُ بمشروعية الأذان وهي بأن لكل صلاة في كل مسجد سننًا وأدباً، ففي الأذان عن طريق التسجيل تفويتٌ لها وإماتةٌ لنشرها مع فوات شرط النية فيه. وأيضاً يفتح على المسلمين باب التلاعب بالدين، ودخول البدع على المسلمين في عباداتهم وشعائرهم، لما يفضي إليه من ترك الأذان بالكلية والاكتفاء بالتسجيل.