الفرق بين اليمين والنذر:
لقد تم التفريق بدقة بين النذر واليمين بين المسلمين؛ وذلك حرصاً منه على عدم الخلط بين مفهومِيهما؛ لأن ذلك الخلط نشأ عنه كثير من الأخطاءِ المنهجية المتعلقة بهما، وانبَنت عليه أحكامٌ خاطئة، ذات تأثير بالغ في حياة الناس، وخاصةً ما يتعلق منها بالجانب الأسري، من أحكام الطلاق والنكاح وغير ذلك. ولكل هذا فقد أولى شيخُ الإسلام ابن تيمية مسألة التفريق بين مفهومي اليمين والنذر وحقيقة كل منهما عنايةً خاصة، وذلك بعيداً عن القوالب اللفظية، التي قد تلبس الحقائق، وتخفي المعاني الجوهرية، وإن تفريق ابن تيمية لليمينِ والنذر فيها أسس منها ما يلي:
أولاً: من حيث حقيقتَهما: يُفرّق بينهما على أساس القصد، فالناذرُ يقصد به التقرب إلى الله، والحالفُ لم يقصد إلا حض نفسه أو غيره أو منعهما، أو التصديق أو التكذيب أو ما شابه ذلك. والحالفُ في صيغة التعليق يُكره الجزاء ويُكره الشرط، بينما الناذر يقصد وقوع الشرط ليقع الجزاء.
ثانياً: من حيث حُكمهما: يُفرق بينهما على أساس الموجب، فاليمينُ مُوجبه التفكير فقط، بينما موجب النذر الوفاء بالمنذورِ. وفيما عدا هذه الفروق فإن النذر واليمين تعتريهُما أحكامٌ واحدة، ويُصنفان جنباً إلى جنب في التصنيفات التي تشمل سائر العقود؛ ذلك أن الشبه بينهما كبيراً جداً وفي جوانب متعددة يصعب حصرها وشرح جوانبها، ويكفي أنهما معقودان بالله أو لله، وهذا وجه التلازم القوي بينهما، ووجه الخلط بينهما.
ولكن الفرق بينهما كما قرره ابن تيمية في أصل حقيقة كل واحد منهما وحكمه، فأصل حقيقة عقد النذر هي التقرب إلى الله تعالى بما يُحبه من القرب، ولهذا كان أصل حكمه الشرعي هو وجوب الوفاء، وأصل حقيقة اليمين هي التوصل إلى غرض للحالفِ بالحضِ والمنع أو التصديق والتكذيب، ولهذا كان أصل حكمه الشرعي عدم وجوب الوفاء، بل التكفير. وهذا معنى قوله عند تفريقه بينهما. والفرق بينهما أن الناذر قصده التقرب إلى الله تعالى، فإذا التزم لله قربةً لزمته؛ لأن ذلك ينفعه في دينه، وهو بدون النذر لم يكن يفعل ذلك، فصار النذر ملزماً له، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: “النذر لا يأتي بخير ولكن الله يستخرج به من البخيل”. أخرجه البخاري.
فإنه يُعطي على النذر ما لا يعطي غيره، وصار مثلما يجب في المعاوضات من إعطاء الأموال ما لا يجب في غيرها، والبخيل لا يعطي إلا بعوض. وأما اليمين فليس قصده التقرب إلى الله، وإنما قصده حض نفسه أو منعها، أو حض غيره أو منعه، فالمقصود بها: أن يحلف بالله على بلوغ غرضه ومراده سواء كان طاعةً أو معصية، ولهذا لم يوجب الله عليه شيئاً؛ لأن الله لا يوجب على الإنسان أن يفعل ما يشتهيه ويريده إذا لم يرده الله. ومع هذا فقد يكون كل واحد منهما واجب الوفاء، أو محرم الوفاء، إذا كان صحيحاً أو غير صحيح، تُلزم به الكفارة، أو لا تلوم إذا كان منعقداً أو غير منعقد.
سبب الغلط والخلط بين مفهومي اليمين والنذر:
لقد لخص ابن تيمية سبب الغلط والخلط الواقِعين بين مفهومي اليمين والنذر بقوله ما يلي: ويشتبه على الناس في الباب أمرين، وهما:
الأول: أن يظن الظان أن ما فعله لله، ولا يكون لله بل يكون لهواه، ويظن أن الذي عقده وعاهد عليه من باب النذر، وهو من باب اليمين، فهذا يرجع إلى قصده ونيته، كثيراً ما يشتبه فيه الخير والشر.
الثاني: أن يظن الظان أن ما عاهد الله عليه وحلف عليه الأيمان المغلظة أنه لا يجوز الحنث فيه بحال، وهذا غلط، ولكن الصواب في ذلك هو قول النبي عليه الصلاة والسلام: “من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خيرٌ وليكفر عن يمينه”. أخرجه مسلم. فالاشتباهُ يقع في نفس الحالف تعظيماً للمحلوفِ والمعاهد به، هل يكفر أو لا؟ والثاني في قصد المعاهد المعاقد الحالف الناذرُ. هل أصل قصده أن يُطيع الله ويتقرب إليه بما التزمه أو ليس قصده ذلك، بل قصده ما تقصده النفوس كثيراً، وغالباً من نيل أغراضها وأهوائها، وهذا هو الذي جاء به الكتاب والسنة بتكفيره على أي وجهٍ كان، وبأي شيء حلف. وهذا الخلط هو الذي سعى ابن تيمية إلى تلافيه تعقيداً وتفريعاً.