أثر التوبة في الحدود:
إن أثر التوبة في الحد هو عبارة عن درءاً أو إيجاباً، ويفصّل ذلك في أمرين:
1. أن تكون توبته بعد القدرة عليه، فهذه التوبة لا تسقط الحد بالاتفاق، كما قال ابن القيم:” أن الحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقاً.
2. أن تكون توبة مرتكب الجريمة الحدّية قبل القدرة عليه. وأثر التوبة في سقوط العقوبة الحدية في هذه الحالة ينقسم إلى قسمين: الأول: محل الاتفاق، والثاني محل الاختلاف.
محل الاتفاق:
ومحل الاتفاق: هو المحارب، وإذا تاب قبل القدرة عليه سقط عنه الحد بالاتفاق. والدليل على ذلك قوله تعالى:” إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ_ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ“المائدة:33-34.
محل الاختلاف:
وهذا يكون في توبة من عدا المحارب من مرتكبي الجرائم الحدية، مثل الزنى والسرقة وما شابه ذلك إذا تاب
قبل المقدرة عليه، وهذا فيه خلاف على قولين:
وقد ذكر ابن القيم، أن الذين نفوا المعاني والقياس قالوا: إن الشريعة جاءت بالتفريق بين المماثلين، فاعتبرت توبة المحارب قبل القدرة عليه دون غيره من مرتكبي الجرائم الحدّية. فرفض ابن القيم هذا التفريق وقرر طرد الحدود كلها على وجه واحد. فتقبل توبة مرتكبي الجرائم الحدّية قبل القدرة عليهم. واستدل بهذا الكلام من والسنة والقياس.
القول الأول: وهو قبول التوبة قبل القدرة عليه:
وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن قبول توبة من ارتكب جريمة حدّية قبل القدرة عليه هو إحدى الروايتين عن أحمد وهو القول الأصح. وهذا ما اعتمدوه في المذهب الشافعي.
دليلهم من السنة: عن أنس رضي الله عنه قال:”كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلم، فجاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً قأقمهُ عليّ، قال: ولم يسأل عنه، قال: أليس قد صليت معنا قال: نعم قال: فإن الله عزوجلّ قد غفر لك ذنبك”. حديث في كتاب الصحيحين.
أما الخلاف في حكم هذا الحديث: لقد تبين لنا من هذا الحديث أن له ثلاثة مسالك وهي:
1. حمل معنى الحديث على من أقر بحدٍ مبهم، فإنه لا يُقام عليه الحد. وعليه فإن من أقر بحدٍ منهم فلا يجب عليه الحد، إلا إذا عينه وأصر عليه المُقر به، طالباً للتطهير به من وراء التوبة. أما إذا لم يُعيّنه أو عينه ولم يُصر عليه فلا يُقام عليه الحد مع التوبة. فتوجيه هذا المسلك، يدلُ على أن هذا الرجل: أقر بحدٍ مبهم لم يفسره، والحدود تكون مختلفة المقادير، فلا يتمكّن الإمام من إقامتها مع الإبهام فستر علية الشارع ودرأ عنه الحد للإبهام.
2. حمله على الخصوصية بذلك الرجل: ووجّه هذا المسلك بينه ابن حجر فقال: يحتمل أن يختص بالمذكور لإخبار النبيّ عليه الصلاة والسلام، أن الله قد كفّر عنه حده بصلاته، فإن ذلك لا يُعرف إلا بطريق الوحي فلا يستمر الحكم
في غيره إلا فيمن علم أنه مثله في ذلك، وقد انقطع علم ذلك بانقطاع الوحي بعد النبيّ عليه الصلاة والسلام.
3. حملهُ على سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة علية: وقال ابن القيم إن هذا هو أصح المسالك.
ووجه هذ المسلك يدل على أمرين وهما:
أ- أنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: التصريح يتعيين الحد وهو”الزنى” وهذا كان يدل في حديث
أنس رضي الله عنه قال: أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال:”إني زنيت فأقم الحدّ”.
ب- أن التوبة قبل القدرة قاومت السيئة فأسقطت الحد.
أما القياس: لقد دلّ الشارع على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه؛ وذلك من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره قبل القدرة عليه، وذلك من باب الأولى، فإذا دفعت عنه توبة حد الحرابة مع شدة ضررها وتعديه، وذلك لأن تدفع التوبة عنه مادون حد الحراب بطريق الأحرى والأولى.
القول الثاني: إن توبة غير المحارب قبل القدرة عليه لا تُسقط الحد عنه:
وبهذا قال أبوحنيفة، مالك والشافعي في أحد قوليه. ودليلهم على هذا القول من القرآن الكريم، والسنة. القرآن: قال تعالى:”الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ“النور:2. وأيضاً قال تعالى: “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا“المائدة:38. وقوله تعالى:” وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً“النور:4. فجميع هذه الآيات تعم التائبين وغيرهم. إذاً فالتوبة قبل القدرة لا تُسقط الحدّ عن التائب.
السنة: واستدلوا من السنة بأحاديث الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحدّ كالغامدية وماعز، فأقام عليه الصلاة والسلام عليهم الحد وهم تائبون قبل القدرة عليهم فلو كانت التوبة قبل القدرة مسقطةً للحد لم يحدهم صلى الله عليه وسلم.