ما هو أثر تقادم الدعوى في الإقرار على الجريمة التي توجب الحد؟

اقرأ في هذا المقال


أثر تقادم الدعوى في الإقرار على الجريمة التي توجب حدّاً:

لقد اختلف الفقهاء في أثر التقادم على سقوط جرائم الحدود، إذا كان ثبوتها بطريق الإقرار، بمعنى: إذا أقرّ الشخص بجريمة توجب الحدّ، مثل الزنا أو السرقة، وكان إقراره بعد مضي مدة طويلة عن وقت وقوع الجريمة منه، فهل هذا التقادم يؤثر على هذا الإقرار أم لا؟ وبيان هذه المسألة يكون على النحو التالي:
الفرع الأول: ويتضمن مذاهب الفقهاء في المسألة:
القول الأول: أن التقادم لا يؤثر في الإقرار على الجريمة التي توجب حدّاً، فيُسمع إقراره ويُعتبر ولو كان متقادماً، ويُبنى عليه إقامة الحدّ، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرةِ.
القول الثاني: أن التقادم يؤثر في الإقرار على الجريمة التي توجب حدّاً، فلا يُسمعُ إقراره ولا يُعتبر، ويُبنى عليه سقوط الحدّ، وبه قال: ابن أبي ليلى وزفرٌ من الحنفية.
الفرع الثاني: الأدلة ومناقشتها:
أدلة القول الأول: لقد استدل أصحاب القول الأول، وهم جمهور الفقهاء القائلون بأن التقادم لا يؤثر في الإقرار على الجريمة التي توجب حدّاً، فيسمع إقراره ويُعتبر، وينبني عليه إقامة الحدّ، ولو تقادم الزمن عليه، بما يلي:
أن إقامة الحد على المقرّ ليس إلا تطهيراً من الذنب، وهذا لا يختلف به الحكم ولو كان إقراره على جريمة متقادمة، ممّا يدل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بإقرار المرأة الجهنية بعد أن ردّها ثلاث مرات فقال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم.
لم يُعهد من النبي عليه الصلاة أنه كان يسأل من جاءه مقرّاً بحدّ عن وقت وقت اقترافه هذا الحدّ، الأمر الذي يدلُ عدم ترتب على التقادم أي أثر في الحكم، وإلا لما توانى عليه الصلاة والسلام في السؤال عن ذلك، فالقاعدةُ تقول ” ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنزل منزلة العموم في المقال والأحوال”.
أن المقرّ بجريمة توجب الحدّ بعد زمنٍ متقادم عليها غير متهم في إقراره؛ إذ إنّه مقبلٌ على عقوبة شديدة، وعلى الحاكم أن يُطبق عليه الحدّ إذا ثبت المقرّ على إقراره.
أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الأول وهم أبي ليلى وزفر الذين قالوا بأن التقادم يؤثر في الإقرار على الجريمة التي توجب حدّاً، فلا يسمع إقراره ولا يُعتبر، وينبني عليه سقوط الحدّ بما يلي:
1. قياس الإقرار بالتقادم على الشهادة المتقدمة، فالشهودُ كما ندبوا إلى الستر، فإنّ مرتكب الجريمة التي توجب الحدّ مندوب إلى الستر على نفسه، وفي الحديث: “من أصاب من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله”. أخرجه الحاكم في مستدركه. وهذا الرأي يُجاب عنه وجهين:
الوجه الأول: أن المقصود بهذا الحديث: من أصاب شيئاً من هذه القاذورات ولم يبدها، أي أخفاها وسترَ على نفسه، أمّا أن أبداها وأظهرها لولي الأمر، دون الرجوع عن إقراره، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: “ومن أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حدّ الله”.
الوجه الثاني: أننا لا نسّلم بأن التقادم يؤثر على الشهادة على الحدّ حتى يُقاس الإقرار عليها.
الوجه الثالث: أننا لو سلّمنا بأن التقادم يؤثر على الشهادة في الحدّ، فإنه لا يُقبل قياس الإقرار عليها؛ إذ إنّ التهمة في الإقرار أضعف منها في الشهادة؛ فإن الإنسان لا يُعادي نفسه على وجه يحمله ذلك على هتك ستره، وإنما حمله على ذلك النّدم وإثاره عقوبة الدنيا على عقوبة الآخرة، وهذا بخلاف الشهادة.

2.
أن المقصود من هذه العقوبات هي الانزجار والردع وترويع المجرمين، وذلك يكون إبّان وقوعها، وتأخيرها يُذهب معنى الردع فيها. ويُجاب عنه: أن هذه العقوبات لا يُقصد منها ردع المجرم الذي قام بإتيان هذه الجرائم فقط، وإنما يُقصد منها كذلك الردع العام لجميع أفراد المجتمع، وإشعار المجتمع بتحقيق العدالة والمساواة، وزجر كل من تُسول له ارتكاب مثل هذه الجرائم متكئاً على التقادم أو غير ذلك، وهذه المعاني تتحقق بإقامة الحدّ حتى على من أقرّ على جريمة توجب الحدّ، ولو كان إقراره متقادماً.
3. أن الجاني بإقراره على الجريمة التي توجب الحدّ لتطهير نفسه:إنّما ذلك مظنة توبته، ومظنة التوبة ذاتها تجعل العقاب قد صادف نفساً طهرت من الذنب وتابت توبة نصوحاً.
4. أن الحدّ إذا تأخرت إقامته عن وقت الحكم الثابت بالشهادة في جرائم الزنا والسرقة والشرب، فإن لا تجوز إقامته، أي أن التقادم في هذه الجرائم يُسقط الحدّ بعد وجوبه، وأولى به أن يُسقطها قبل الحكم في كل الأحوال؛ لأن الإقرار مهما كانت قوته فإنه لا يصل إلى مرتبة الحكم بعد سماع الإثبات.


شارك المقالة: