أثر تقادم الدعوى في شهادة الجريمة التي توجب حداً:
اختلف الفقهاء في أثر التقادم على سقوط جرائم الحدود، إذا كان ثبوتها بطريق الشهادة، بمعنى أنه إذا رأى الشهود جريمة توجب حداً، مثل الزنا، أو السرقة، ولم يدلوا بهذه الشهادة حتى مضى عليها مدةً من الزمن، دون أن يكون هناك مانعٌ من ذلك الأداء، ثم قاموا بأداء هذه الشهادة، فهل هذا التقادم يؤثر على هذه الشهادة، أم لا؟ وبيان هذه المسألة كان على النحو التالي:
الفرع الأول: مذاهب الفقهاء في المسألة على قولين:
القول الأول: أن التقادم لا يؤثر في الشهادة على الجريمة التي توجب حدّاً، فتسمع الشهادة ولو تقادم الزمن عليها، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، الشافعية، الحنابلة، الظاهرية.
القول الثاني: أن التقادم مؤثر في الشهادة على الجريمة التي توجب حدّاً، فلا تسمع الشهادة بسبب التقادم، وذلك يوجب سقوط الحدّ، باستثناء حدّ القذف؛ فإنه لا يسقط بالتقادم، وهذا مذهب الحنفية ورواية عند الحنابلة.
الفرع الثاني: الأدلة والمناقشة:
أولاً: أدلة القول الأول: استدّل أصحاب القول الأول وهم جمهور الفقهاء بأن التقادم لا يؤثر في الشهادة على الجريمة التي توجب حدّاً، فتسمع الشهادة ولو تقادم الزمن عليها، بما يلي:
1. عموم النصوص الشرعية الواردة في شأن الشهادة؛ إذ لم تفرق هذه النصوص التي أوجبت الاعتداء بالشهادة، سواء أكانت متقادمةٍ أم لا، كقول الله تعالى: “وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ” الطلاق:2.
2. أن مقدار قبول شهادة الشاهد على الحدود أو غيرها، إنما هو عدالة الشاهد، وتأخير أداء الشهادة لا يؤثر في عدالته، فتقبل شهادته على الحدّ ولو مع التقادم.
3. أن كل شهادة قبلت على الفور تُقبل على التراخي.
4. أن الشهادة المُتقادمة في الحدود تقبل قياساً على الشهادة المتقادمةُ في الحقوق؛ إذ ليس هناك فرقٌ بينهما.
5. أن وليّ الأمر ليس له الحق في العفو عن الجرائم التي توجب حدّاً، وإذا ثبت هذا فقد امتنع القول بتقادم دليلها، سواء أكان دليلها إقراراً أم شهادةً.
ثانياً: أدلة القول الثاني: لقد استدل أصحاب القول الثاني، وهم الحنفية القائلون بأن التقادم يؤثر في الشهادة على الجريمة التي توجب حدّاً، فلا تسمع الشهادة بسبب التقادم بما يلي:
1. ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “أيّما شهودٌ شهدوا بحدّ لم يشهدوا بحضرته، فإنما هم شهودُ ضغن” أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عون. ووجه الدلالة : أن هذا الأثر يدلُ على أن مرور الزمان على سكوت الشاهد دون عذر في الإدلاء بشهادته فور الجريمة. ويُجاب عنه من ثلاثة وجوه وهي:
الوجه الأول: أن هذا الأثر ضعيف لا تقوم به الحجة، إذ إنه مرسلٌ منقطع.
الوجه الثاني: أننا لو سلّمنا بصحة هذا الأثر فإنه لا يدلّ على ما ذهب إليه الحنفية، إذ إنّ معناه أن الشاهد لا يحقّ له أن يشهد إلا بما شهده وعلمه بنفسه، والّا لصارت شهادته شهادة ضغن، ويؤكد صحة هذا المعنى ما جاء في إحدى روايتان. على فرض صحة هذا الأثر: هل يَصلح عند الحنفية أنفسهم أن يقيّدوا به إطلاق نصوص الكتاب والسنة المتواترة إلا بما كان متواتراً.
2. أن الشاهد بسبب الحدّ مأمور بأحد أمرين: إمّا الستر احتساباً لفضيلة الستر على المسلم، وإما الشهادة احتساباً لمقصد إخلاء العالم عن الفساد. وكلاهما واجب مخير على الفور؛ لأن كلاً من الستر وإخلاء العالم عن الفساد لا يتصور فيه طلب التراخي.