التكييف الفقهي للخطبة وحكم العدول عنها

اقرأ في هذا المقال


التكييف الفقهي للخِطبة:

ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخِطبة هي عبارة عن وعدٌ بالزواج وليست عقداً مستقلاً بنفسه، ولهذا فلا إلزام فيها ولا قضاء؛ لأن الوعود هو كذلك عند الجمهور، وأما ديانة فهي ملزمة ما لم يطرأ عليها ما يُغيّر قناعة الخطيبين ببعضهما، أو يجعلهما غير صالحين للزواج، فعندها ينتفي اللزوم عنها ديانة أيضاً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:“مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ رَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيرْ” رواه مسلمٌ.

كما أنّ هذا في الوعد المؤكد اليمين، فكيف بالوعد بغير اليمين، فإنه يكون مثله على الأقل، إلا أنّه لا كفّارةٌ فيه؛ لأنّ الكفّارة خاصة باليمين، وعلى هذا، فإن لكل من الخاطب والخطيبة بأن يعدلا عنها قضاءً في أي وقت، لسبب ولغير سبب، سواء وافق على ذلك الطرف الثاني للخطبة أم لم يوافق.

وذهب ابن شبرمة إلى أن الخِطبة عقد لازم، وعلى هذا فليس لأحد الخطيبين أن يفسخ الخطوبة بإرادته المنفردة ما لم يوافقه الطرف الآخر على ذلك، فإذا وافق جاز، وإذا لم يوافق لزم إتمام الزواج، إلا أن يحدث بعد الخطبة ما يجعل العقد مستحيلاً، كالموت، أو طروء سبب من أسباب التحريم، كالرضاعة أو المصاهرة، وذلك استدلالاً بقوله تعالى: “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً” الإسراء:34. 

إنّ مذهب الجمهور هو الأصح والأقوى، وذلك لعدة أسباب منها:

1- جعل الخطبة عقداً لازماً ويُمكن أن يخرجها عن طبيعتها، فهي فترة تروِّ وتعرف.
2- عقد الزواج من العقود الرضائية التي لا تتم إلا بالرضا التام بين الزوجين، حقيقة إن كانا بالغين، أو حُكماً إن كانا قاصرين، وذلك بموافقة ورضا ولييها، فإذا جعلنا الخِطبة عقداً لازماً يجب الزواج بعده، سواء كان الزواج هذا زواجاً بالإكراه أم بالرضا، وهو ممنوع. 

أثر العدول عن الخِطبة بسبب المهر:

قد تستمر الخطوبة فترة طويلة قبل أن تنتهي بعقد الزواج، وربما سلَّم الخاطب إلى خطيبته المهر أو بعضه في خلال ذلك، ثم طرأ ما حدث بالخاطب أو الخطيبة إلى العدول عن الخطبة، فما أثر هذا العدول على ما سلمه الخاطب من المهر؟ 

اتفق الفقهاء على أنه ليس للخطيبة مطالبة الخاطب بشيء من المهر قبل عقد الزواج، سواء كانا على خطبتهما أو عدلا عنها باتفاقهما، أو كان العدول من الخاطب وحده، أو من الخطيبة وحدها، وذلك لأن المهر لا يُستحق للمرأة إلا بالعقد، فما لم يتم العقد فلا حق للمرأة في المهر أصلاً. 

ولكن إن سلَّم الخاطب المهر أو جزءا منه للخطيبة، فهل له أن يسترد ما سلمه إليها بعد ذلك مع استمرار الخِطبة وبعد فسخها؟

لا خلاف بين الفقهاء في أن للخاطب استرداد ما سلّمه للخطيبة من المهر مع استمرار الخطبة وبعد فسخها على سواء، لأن المهر مُلكه، ولا ينتقل إلى المرأة إلا بعقد الزواج، فما دام العقد لم يتم فهو مُلكه وله استرداده، ولا يختلف الحال بعد فسخ الخطبة عنه قبل فسخها، فإن كان قائماً على حاله استردّه كما سلمه، وإن هلك أو استهلك أو ضاع أو سرق أو تم بيعه، استرد مثله إن كان مثلياً، وقيمته يوم سلمه لها إن كان قيمياً.  إلا أن الخطيبة إذا اشترت به أشياء خاصة بها، ثم طلبه الخاطب، فهل لها أن تسلمه ما اشترته به، أو أن عليها أن تسلمه المهر الذي قبضته عيناً، ومثله أو قيمته إن هلك. 

أثر العدول عن الخطبة على الهدايا:

كثيراً ما يتبادل الخطيبان الهدايا بينهما أثناء الخطبة، وربما كانت أكثر الهدايا من قِبَل الخاطب لخطيبته، وهذه الهدايا تختلف أحوالها وقيمتها وأنواعها وطريقة إهدائها باختلاف الأعراف والأزمنة وحال الخطيبين، فإذا عدل الخطيبان أو أحدهما عن الخطبة، فما هو مصير هذه الهدايا بعد العدول، أيكون للمهدي في هذه الحال أن يعود في الهدايا، أم تكون الهدايا مُلكاً للمهدى إليه، ولا رجوع للمهدي فيها مطلقاً؟

اتفق الفقهاء على أن للهدايا بين الزوجين حكم الهبة، إلا أن بعض الفقهاء عدها هبة مشروطة بإتمام الزواج حكماً، فأمضى عليها حكم الهبة المشروطة، ولم يعتد فقهاء آخرون بهذا الشرط الضمني، فعدّوها هبة مطلقة، وأطلقوا عليها حكم  الهبة المُطلقة.

ونفصل ذلك في مذهب الحنفية: لقد ذهب الأحناف إلا أنّ الهدايا بين الزوجين هي هبةٌ مُطلقه، وحكم الهبة عندهم بعد قبضها جواز استردادها قضاءً، إلا إذا كان ذلك لمانع، وإن كره ذلك ديانةً لما رواه ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ” رواه البخاري.

موانع الرجوع في الهبة:

إنّ موانع الرجوع عند الحنفية سبعة هي:

  • زيادة عين الموهوب زيادة متصلة به: مثل الشّاة إذا َسمنت، والخياطِ إذا خِيط ثوباً، فهذه الزيادة تمنع الرجوع بالهبة، سواء كانت متولدة في الأصل، أو لا، وشرط أن تكون هذه زيادةٌ معتبرة، فإن كانت قليلة، فلا حكم لها، ولا تمنع الرجوع في الهبة، ويرجعُ تقدير ذلك إلى القضاء. 
  • موت الخاطب أو المخطوبة: لأن موت الواهب أو الموهوب يمنع الرجوع في الهبة عندهم.
  • أخذ الواهب من الموهوب له عِوضاً عن الهبة: فإذا أهدى الخاطب خطيبته شيئاً ثم قبل منها عوضاً عنها، سقط حقه في الرجوع عليها بما وهبها، وكذلك الخطيبة إذا أهدت خطيبها شيئاً ثم قبلت منه بدلاً عنه، لأن العقد أصبح معاوضة لا هبة، والمعاوضات عقود لازمة على خلاف الهبات، هذا إذا قبض الواهب العوض مع النص على أنه عوض هبة، فإذا قبضه على  أنه هبة مبتدأ لا عوض عن هبة سابقة، كان هبة مطلقة، وجاز الرجوع فيه. 
  • خروج الموهوب عن ملك الموهوب له بأي طريق كان: كأن باعها أو وهبها لغيره، فإن ذلك يمنع الواهب من الرجوع فيها، لتعلّق حق غيره بها.
  • القرابة: وهي هنا القرابة مع المَحرمِيَّة، فلو كان الواهب قريباً محرماً من الموهوب له امتنع عليه الرجوع في الهبة له، خشية قطع الأرحام، فإذا كان محرماً غير قريب، كالأخ رضاعاً، أو قريباً غير محرم، كابن العم، لم يمتنع الرجوع في الهبة، وغني عن البيان أن هذا الشرط لا يتأتى  بين الخطيبين، لبطلان خطبة المحارم. 
  • الزوجية: وهي هنا العقد الصحيح، وذلك درءاً للقطيعة بين الزوجين، وهذا الشرط غير متأت هنا أيضاً، لأن العدول المفروض بين الخطيبين قد تم قبل العقد لا بعده، وإلا كانا زوجين لا خطيبين. 
  • الهلاك: وهو عينُ الموهوب وسواء في ذلك أن يَهلك بصنع الموهوب له، كأن يكون طعاماً فيأكله أو ثوباً فيلبسه، أو بغير صنعه، كأن يكون سواراً فيُسرق منه أو يضيعُ، فإنه لا رجوع فيه، ولا في قيمته أو مثله.

حكم الإختلاف في المهر والهديا:

إذا اختلف الخطيبان بعد فسخ الخطوبة فيما قدّمه أحدهما للآخر، سواء كان هديةً أو مهر، فإن كان المُقدّم هو الخطيبة فهو هدية حتماً، لأنه ليس على الخطيبة مهر، وإن كان المقدِّم هو الخاطب، فأي الخطيبين أقام البينة على دعواه حُكم له بها، وإن أقاما البينة، فقدمت بينة الخطيبة، لأن دعواها على خلاف الظاهر، وإن عجزا عن البينة، كان الحكم له بيمينه، لأنه يتمسك بالظاهر، وهذا ما لم يكن هناك عرفٌ مستقر، فإن كان هناك عرفٌ مستقر حكم بموجبه مع اليمين عند العجز عن البينة.


شارك المقالة: