اقرأ في هذا المقال
النبأ العظيم الذي جاء به هدهد سليمان عليه السلام:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: “إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ” النمل:23. ومعنى كلمة تُملكهم أي تحكمهم، ومعنى، ومعنى: “وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ” أي مما يؤتاه أقرانها من الملوك، وليس مثل الذي أوتية سليمان عليه السلام؛ لأن هذا شيءٌ آخر، والعرش هو مكان جلوس الملك وكان عادةً يتمشى مع عظمة الملك.
والهدهد أخبر سليمان عليه السلام بقوله: “إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ” فهذا فيما يتعلق بالملك؛ لأن نبي الله سليمان؛ لأنه نبي أخبره بقوله عن ملكة سبأ: “وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ” النمل:24.
فكان الهدهد يعرف قضية العقيدة وقضية الإيمان، وأنّ الخلق لا يجب ولا يصح أن يعبدوا إلا الله، ولذلك يقول إنه وجدها وقومها يعبدون الشمس من دون الله، ولماذا لا يعبدون الله الذي يخرج الخبء في الأرض؟ كيف لا يعبدون المنعم عليها بكل النعم.
إذن هنا نتعلم سرّ الحق في قوله تعالى: “وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ” الإسراء:44. ننظر إلى كلام الهدهد وعقيده ووعظهِ الجميل في قوله تعالى: “وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ” النمل:24.
والذي أحزن الهدهد أنهم يسجدون للشمس من دون الله، ولذلك قال مستنكراً فِعلهم: “ألّا يسجدوا لله الذي يخرج الخبءَ في السموات والأرضِ”. والهدهد خلال طيرانه في قصر بلقيس رأى كُوة أو طاقة تدخل منها الشمس، وهي مبنيةً بشكل هندسي بحيث تدخل منها الشمس كل يوم بعد شروقها، فتتنبهُ بلقيس وتستقبلها بالسجود؛ لذلك حينما ذهب الهدهد بكتاب سليمان إليهم، وقف في الطاقة وسدها بجناحهِ، فانتظرت بلقيس دخول شعاع الشمس وارتفاعها، فصعدت إلى الطاقة لترى ما بها، فطار الهدهد وألقى كتاب سليمان عليه السلام، فأخذته بلقيس.
إذن فالهدهد يستغرب أن يسجد هؤلاء القوم للشمس، ولا يسجدون لله الخالق الرازق الذي يخرج لهم رزقهم، ويعلم سرهم وجهرهم. ثم يقول الله سبحانه وتعالى: “اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ” النمل:26. فالله هو المستحق للعبادة وحده، وهو ربّ العرش العظيم، وقلنا: إنّ عظمة عرش بلقيس، وعروش ملوك الدنيا كلها هي على قدر عظمة البشر وقدراتهم، ولكن عظمة عرش الله على قدر عظمته وقدرته وسبحانه. إنّ سليمان لم يأخذ الهدهد حجةً مسلمة، ولكنه أراد أنّ يتأكد فقال: “قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ” النمل:27.
إنّ النضر محل العين، والصدق والكذب لا يُعرفان بالعين، ولكن كلمة النظر هنا انتقلت من العين إلى معنى العلم بالحجة؛ ولذلك في التوقيع على كثير من الأوراق يقول“نُظر” والناس يقولون: هذه مسألة فيها نظر، أي أنها لا تمر مرور الكرام، بل لا بدّ من بحثها والتأكد منها.
ولذلك قال سليمان: “قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ“. مع أن المقابل لكلمة صدقت هو كذبت، ولكن سليمان لم يقل للهدهد سننظر أصدقت أم كذبت، ولكن قال: “قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ“. وهذا لطف وترفق من الحاكم برعيته؛ لأن معنى “أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ” أي حتى إنّ كذبت فأنت لم تكذب وحدك، ولكنك ستكون ضمن كثير من الكاذبين؛ لأنّ كثيراً من الناس يكذبون، أو انه من الكاذبين ميلاً لهم أو قريباً لهم، وهذا يدلُ على أن إلهامات سليمان كنبيٍ جعتلهُ يعرف أنه صادق، ولكنه أراد أن يتأكد حتى لا يجامل جنديّاً من جنوده.
ثم يقول بعد ذلك: “اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ” النمل:28. هذا معناه أن سليمان فكر في الأمر، وقال: نكتب لها كتاباً ونرسله مع الهدهد، حتى يتأكد من الردّ ويعرف أبعاد الموقف. ومعنى: “ثم تولّ عنهم” أي أبعدُ عنهم قليلاً وانظر ماذا يفعلون؛ لأنهم سيراجعون بعضهم البعض؛ لأن معنى“يرجعون” أي يراجع بعضهم بعضاً.
حديث ابن عباس عن هدهد سليمان عليه السلام:
لقد حدّثَ يوماً عبد الله بن عباس وفي القوم رجل من الخوارج، يُدعى نافع ابن الأزرق، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس، فقال له: قف يا ابن عباس غلبت اليوم قال ولم، قال إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض وإن الصبي ليضعُ له الحبة في الفخ ويحثو على الفخ تراباً فيجئ الهدهد ليأخذها فيقع في الفخّ فيصيده الصبّي فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: دررت على ابن عباس لما أجبته ثم قال له: ويحك، إنه إذا نزل القدرُ عُميَ البصر، وذهب الحذر فقال له نافع: والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبداً.