أقوال العلماء في تعيين العاقلة:
لقد اختلف الفقهاء في تعيين العاقلة على ثلاثة مذاهب وهي:
- المذهب الأول: عاقلة القاتل هم أهل ديوانه، وهم الذين يشتركون معه في سجلٍ واحد للجهاد إن كان مجاهداً أو أهل حرفته إن كان صاحب حرفته، أو أهل صنعته إن كان صانعاً، أو أهل قريته إن كان مقيماً بها، فإن لم يكن له ديوان فعاقلتهُ هم قرابته وكل من يستنصر بهم، فإن لم يكن له عاقلة من قرابة مثل اللقيط والحربي المستأمن، أو الذمي الذي أسلم، فعاقلتهُ بيت مال المسلمين، وهذا مذهب الحنفية.
- المذهب الثاني: العاقلة تشملُ القرابة والديوانُ وبيت المال، لكن الديوان مقدم عليها إذا كان العطاء قائماً وإلا فقومه، فإن عجزوا حملَ عنه بيت المال، وهذا مذهب المالكية.
- المذهب الثالث: وهو مذهب الشافعية والحنابلة: العاقلةُ عصبة الإنسان الوارثون من جهة أبيه إذا كانوا ذكوراً، ثم الولاء ثم بيتُ المال.
وأدلةُ الحنفية والمالكية هي الأثر وإجماع الصحابة والمعقول:
– أما الأثر: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ” أول من دون الدواوين عمر بن الخطاب، وفرض فيه الدية كاملةً في ثلاث سنين”.
– أما الإجماع: واستدلوا بأن قضاء عمر كان بمحضر من الصحابة، فلم يُتكر عليه أحدٌ فكان إجماعاً، والإجماع السكوتي حجة ظنية، لكن الذي يكفينا أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة الكرام مخالفته.
– المعقول: إن العلة في فرض الدية على العاقلة هي النصرة، والنصرة متحققة في أهل الديوان، فإن العرب كانت لهم في الجاهلية أسبابَ للتناصر منها القرابة، ومنها الولاء ومنها الحِلف، فكانوا يعقلون عن حليفهم وعديدِهم، أي الشخص المعدود منهم. ويعقل عنهم حَليفهم وعديدِهم ومولاهم باعتبار التناصر كما يعقلون عن أنفسهم باعتبار التناصر، فلما كان زمن عمر رضي الله عنه ودون الدواوين، صار التناصر منهم بالديوان، فكان أهل الديوان الواحد ينصر بعضهم بعضاً، وإن كانوا من قبائلَ شتى، فجعل عمر العاقلة أهل الديوان. كما وإن النساء والصبيان لا يدخلن في العقل لعدم القدرة على النصرة فيهم، فدل ذلك على صحة اعتبار النصرة في العقل.
أدلة الشافعية والحنابلة من السنة النبوية:
– عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبدٍ أو أمةٍ، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها أي ” عصبة القاتلة “. صحيح البخاري. وجه الدلالة: إن وجه الدلالة ظاهرٌ بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد قضى بجعلِ الديّة على عصبة القاتلة لكونها عاقلة.
الرأي الراجح:
من استعراضنا لأقوال الفقهاء وأدلتهم، يمكن أن نجمل اعتبارهم للديوان في مذهبين:
- المذهب الأول: الحنفية والمالكية الذين جعلوا عاقلة القاتل ابتداءً ديوانه، ثم قرابته ثم بيت المال، فهم لا يخرجون العصبة أو القرابة عن كونها عاقلة للقاتل، بل يجعلونها في الدرجة الثانية بعد الديوان.
- المذهب الثاني: الشافعية والحنابلة الذين جعلوا عاقلة القاتل مقتصرة على عصبته، ولا شك أن عمر رضي الله عنه لما اعتبر العاقلة هم أهل الديوان نظراً للتناصر منهم بالديوان، فكان أهل الديوان الواحد ينصر بعضهم بعضاً، وليس في هذا إلغاء عصبة القاتل كونهم عاقلة، وهذا لا يقول به أحد، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام اعتبر العصبة هم عاقلة الجاني كما في الحديثين السابق الذين استدلوا به الشافعية والحنابلة.