الأحكام المتعلقة بمواطن القنوت في الصلاة:
ينحصرُ القنوت في الصلوات في عِدة مواطن مختلفة منها ما يلي:
1- الصبح:
وحكمه هو كما يلي: لقد اختلف الفقهاء في حُكم القنوت في صلاة الصبح على ثلاثة أقوال وهي:
القول الأول: وهو أنه لا يُشرع القنوت في صلاة الصبح، وذهب إلى ذلك كل من الحنفيّة وقالوا بأنه بدعةٌ، أما الحنابلة فقالوا بأنه يكره.
القول الثاني: وقالوا بأنه مستحبّ وفضيلةٌ، وكان هذا المشهور عند المالكية وكان دليلهم على ذلك هو ما جاء عن أنس رضي الله عنه، وهو قوله: “ما زال رسول الله يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا” أخرجه البخاري.
القول الثالث: وقيل أيضاً أن القنوت في صلاة الصبح هو سنة مؤكدة، وكان هذا قول الشافعيّة، حتى وإنّ تركهُ عمداً أو سهواً؛ فإنه لا تُبطلُ صلاته، ولكنه يسجدُ سجود السهو.
وجاءت هذه الأقوالُ الثلاثة في حكم القنوت، ومن نظر إلى الأدلّة وجد أن الصحيح هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول من عدم مشروعيّة القنوت في صلاة الصبح إلا لنازلة تحلّ بالمسلمين، فهنا يشرع القنوت في الصبح وغيره من الصلوات الأخرى كما سنبيّنه إن شاء الله.
أما ما جَعل ذلك سنةٌ يداوم عليها وليس بمشروع، والدليل على ذلك هو:
– ما رواه البخاريّ ومسلمٌ عن أنس رضي الله عنه قال: “قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر شهرًا يدعو في قنوته على أحياء من أحياء العرب ثم تركه” رواه البخاري.
– وما رواه الترمذيّ عن سعد بن طارق الأشجعيّ رضي الله عنه قال: “قلت لأبي: يا أبت، إنّك قد صلّيت خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ها هنا بالكوفة نحو خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني محدث” وفي لفظ آخر عند النسائيّ: “يا بني، إنها بدعة”. وقال الإِمام الترمذيُّ: “والعمل عليه عند أكثر أهل العلم”.
أما حجتهم كانت بحديث وهو: “ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنتُ في الفجر حتى فارق الدنيا” وهو حديث ضعيف لا يُحتجّ به كما بيَّنا ذلك في الهامش عند تحقيقنا لهذا الحديث.
2- القنوت في الوتر:
لقد اختلف الفقهاء في حُكم القنوت في الوتر على أربعة أقوال ألّا وهي ما يلي:
القول الأول: أن القنوت في الوتر واجبٌ في جميع السنة، وهذا هو قول أبي حنيفة وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمَّد فقالا بأنه سنة في كل السنة.
القول الثاني: أنه لا يشرع القنوت في الوتر، وهذا هو المشهور عند المالكيّة، وفي رواية عن مالك أنه يقنت في الوتر في العشر الأواخر من رمضان.
القول الثالث: أنه يستحب القنوت في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان خاصّة. وهذا مذهب الشافعية. وفي وجهٍ آخر عندهم أنه يقنت في جميع رمضان، وفي وجه آخر أنه يقنت في جميع السنة بلا كراهيّة، ولا يسجد للسهو لتركه في غير النصف الأخير.
القول الرابع: أنه يسن القنوت في الوتر في جميع السنة، وهذا هو المشهور عند الحنابلة.
والأوضحُ والله أعلم بأن قنوت الوتر، هي سنة لكن لا يداوم عليه؛ لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقنتُ في الوتر، فالصحابة الذين رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان صلى الله عليه وسلم يفعله دائمًا لنقلوه إلينا جميعًا، وكون أحد الصحابة روى ذلك عنه دل على أنه كان يفعله أحيانًا، أي: لا يداوم عليه.
3- القنوت عند النازلة:
لقد اختلف الفقهاء في حكم القنوت عند النازلة على أربعة أقوال وهي ما يلي:
القول الأول: أنّه لا يقنت في غير الوتر إلا لنازلة كفتنة وبلية، فيقنت الإمام في الصلاة الجهريّة.
القول الثاني: وهو أنّه لا يقنتُ للنازلةِ في غير الصبح نهائياً، ولا بوتر ولا بسائر الصلوات عند الضرورة، وكان هذا المشهور عند المالكيّة.
القول الثالث: هو أنّه إذا نزل بالمسلمين نازلةً مثل وباءٍ وقحطٍ أو مطر يضرّ بالعمران أو الزرع أو خوف عدوّ أو أسر عالم، قنتوا في جميع الصلوات وهذا هو المشهور عند الشافعيّة، وبه قال بعض المالكيّة.
القول الرابع: وعند الحنابلة أنه يكره في غير وتر إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة فإنّه يسن للإمام الأعظم القنوت فيما عدا الجمعة من الصلوات المكتوبة لرفع النازلة.
والذي يتبينُ لنا من هذه الأقوال: هو أنّه من الأولى مراعاة عموم الأدلّة فيها التي جاءت في ذلك؛ والذي يظهر من الأدلة بأنه النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقنتُ أول وقوع النازلة في الصلوات الخمس، ثمّ يتركه في الظهر والعصر والعشاء ويبقيه في المغرب والفجر، ثمّ يتركه في المغرب ويبقيه في الفجر ثمّ يتركه إذا زالت النازلة. وإذا كان القنوت لغير نازلة بل هو لحاجة المسلمين والدّعاء لهم وعلى أعدائهم، فإنّ المستحبّ أن يدعو بين الحين والآخر، هذا هو الذي نرجّحه في قنوت النوازل.
ما هي الأدلة على هذا الترجيح:
أولًا: أنّ كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنتُ في الصلوات الخمس جميعها: فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: “قنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دُبر كل صلاةٍ إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة”. رواه البخاري.
ثانيًا: قنوته عليه الصلاةُ والسلام في الظُهر والعشاء والفجر والدليل على ذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “لأقربن لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو هريرة يقنتُ في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح بعد ما يقول سمع الله لمن حَمده فيدعو للمؤمنينَ ويلعنُ الكفار” رواه البخاري. وفي رواية “وصلاة العصر” بدل من “صلاة العشاء”.
ثالثًا: وأيضاً قنوتهُ صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب والفجرِ والدليل هو : عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: “إنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم كان يقنتُ في المغرب والفجر” أخرجه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: “كان القنوت في المغرب والفجر”. أخرجه البخاري.
رابعًا: أما عن قنوته صلى الله عليه وسلم في الفجر فقط، فمن ذلك كان الدليل: حديث أنس رضي الله عنه- في القرّاء الذين قتلوا في بئر معونة قال: “فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوهم شهرًا في صلاة الغداة” أخرجه البخاري.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّه سمع النّبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة من الفجر بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربّنا ولك الحمد، يقول: “اللَّهم العن فلانًا وفلانًا” أخرجه البخاري.